لم يدخر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، جهدًا منذ تنصيبه في يناير الماضي لإسقاط الاتفاق النووي الإيراني، ولم يترك ثغرة في هذا الاتفاق إلا وحاول من خلالها إقناع الدول الخمس الأخرى المشاركة في الاتفاق بمدى خطورته عليهم، لكن مع فشل كافة جهوده بدأ يتراجع خطوات قليلة إلى الوراء، مع محاولات حفظ ماء الوجه. على الرغم من إقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية مرارًا بإلتزام الجمهورية الإيرانية بكافة بنود الإتفاق النووي الذي تم توقيعه في 14 يوليو عام 2015، مع مجموعة القوى الدولية "5+1″، الصين وروسيا والولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبريطانيا إضافة إلى ألمانيا، إلا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ظلت مُصره على انتقاد الاتفاق النووي في كافة المناسبات والمحافل الدولية، وحاولت مرارًا إقناع الدول الأخرى الشريكة في الاتفاق بأنه كارثة على مستقبلهم، وتوعد الرئيس الأمريكي بتمزيقه باعتبار أنه "أسوأ اتفاق على الإطلاق وقعته بلاده في تاريخها". التمسك الدولي بهذا الاتفاق التاريخي والإقرار بإلتزام إيران به وضع الإدارة الأمريكية الجديدة في موقف محرج، حيث وقعت بين خيارين كلاهما أسوأ من الآخر، إما تنفيذ الوعد الانتخابي ل"ترامب" ورفع الهيبة الأمريكية من خلال تمزيق الاتفاق، ومن ثم الوقوع في فخ الانتقادات الدولية وخسارة أمريكا لأي دعم في حال نشوب خلاف سياسي أو عسكري مع إيران، وفي الوقت نفسه فإن تمزيق الاتفاق من جانب أمريكا لا معنى ولا قيمة له، فالاتفاق في هذه الحالة سيبقى ساريًا؛ لأن أمريكا ليست الطرف الوحيد فيه، وستكون هذه الخطوة بمثابة انسحاب أمريكي من الاتفاق لا يسقط بموجبه، والخيار الثاني هو التراجع عن هذا الوعد الانتخابي والالتزام بالاتفاق، وبذلك تتراجع هيبة الإدارة الأمريكية الجديدة، لكن تبقى بعض الإجراءات المُعادية لإيران، لحفظ ماء وجه "ترامب". "ترامب" المتخبط كعادته في علاقاته السياسية بالدول الحليفة، والمعروف بتصريحاته المتناقضة في الكثير من المناسبات، اختار الطريق الثاني بعد أن أدرك جيدًا أنه سيكون الخاسر الأكبر، بل والوحيد في حال سلوك الطريق الأول، حيث تراجع عن تهديداته بتمزيق الاتفاق النووي، وأعلن التزامه به وتمديده، معتبرًا أن طهران تلتزم بشروط الاتفاق، حيث لفت مسؤول في إدارة ترامب إلى أن الرئيس يعتبر طهران تلتزم بالشروط التي ينص عليها الاتفاق النووي، مما يعني عدم فرض أي عقوبات أمريكية عليها بسبب برنامجها النووي. وفي محاولة أمريكية لحفظ ماء الوجه للوعد الترامبي الذي تم نقضه على غرار العديد من الوعود السابقة، وفي محاولة أيضًا لإرضاء الحليفتين السعودية والإسرائيلية اللتين تعتبران هذا الاتفاق فزاعة لهما، هدد "ترامب" بفرض عقوبات على طهران لا تتصل ببرنامجها النووي، بل ببرنامجين عسكريين آخرين، هما برنامج الصواريخ الباليستية الذي يقوض هذا الاتفاق، وبرنامج آخر لتطوير زوارق بحرية سريعة، وفقما أعلن مسؤول أمريكي الاثنين الماضي. تصريحات المسؤول الأمريكي عقبها بساعات إعلان فرض عقوبات جديدة على إيران على خلفية برنامجها للصواريخ البالستية، حيث فرضت الخارجية الأمريكية عقوبات على 18 شخصًا وكيانًا مرتبطين ببرنامج الصواريخ البالستية والحرس الثوري الإيراني، وقالت وزارة الخارجية إن الولاياتالمتحدة لا تزال قلقة للغاية بشأن أنشطة إيران في أنحاء الشرق الأوسط، والتي تقوض الاستقرار الإقليمي والأمن والازدهار في المنطقة. التناقض الأمريكي بين الإقرار بإلتزام إيران بالاتفاق واستمرار فرض المزيد من العقوبات عليها دفع طهران إلى الرد سريعًا وبالمثل على هذه الإجراءات، حيث أقر مجلس الشورى الإيراني، أمس الثلاثاء، مشروع قانون لمواجهة "المغامرات الأمريكية" بالمنطقة، وصوت المجلس بأغلبية ساحقة من الأصوات، 216 صوتًا لصالح القانون مقابل 6 أصوات ضده، ونص القانون على إلزام الحكومة بتخصيص حوالي 260 مليون دولار للقوات المسلحة ولتطوير البرنامج الصاروخي، بهدف تعزيز القدرات الردعية للبلاد والتصدي للإرهاب وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، إضافة إلى تخصيص مبلغ مماثل لتمويل فيلق القدس التابع لحرس الثورة، بهدف التصدي للإرهاب. في ذات الإطار قال رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني، بعد التصويت بالإيجاب على القانون، إنه يبعث برسالة واضحة إلى الأمريكيين مفادها أن إيران ستتصدى لهم بكافة قدراتها، كما أكدت الخارجية الإيرانية أنها سترد بفرض حظر على أفراد جدد وكيانات أمريكية جديدة عملت ضد الشعب الإيراني وباقي الشعوب المسلمة في المنطقة. من جانبه، لوح وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، بإمكانية الانسحاب من الاتفاق كسيناريو من السيناريوهات المحتملة في حال نقض الإدارة الأمريكية الاتفاق، حيث قال "ظريف" إن طهران لديها سيناريوهات ستلجأ اليها في حال عدم التزام واشنطن بالاتفاق النووي، من بينها الخروج من الاتفاق، وحول مواقف ترامب تجاه إيران، قال ظريف: التبجحات لن تؤدى مطلقًا إلى مزيد من التفاهم في التعامل مع إيران أو أي دولة أخرى.