منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها والكائن يناهض الكائن في جميع مناحي الحياة، وفى جميع العصور كان الصراع والنزاع سمة من سمات العلاقات بين الكائنات الحية، وظلت الغلبة للغة القوة، التي كانت تحسم كل نزاع بين الأفراد، فكان الشخص يقتضي حقه بنفسه، ويستعين في ذلك بأفراد عائلته، أو أقاربه من القبيلة التي ينتمي إليها. وفى الأحقاب التاريخية الطوال لم يكاد يخلو زمان أو مكان من التنازع واستخدام القوة بين الدول والشعوب، بوصفها أداة تقليدية لتحقيق الأهداف القومية الحيوية للكثير من الدول. ولم يكن القانون الدولي التقليدي يحرم اللجوء للقوة كمبدأ عام، بل اكتفى بمحاولة الحد من مداها وآثارها وتقرير بعض القيود على حق الدول في اللجوء إليها. أما في المجتمع الدولي المعاصر فبعد تطور الحياة وتقدمها، وبعد ظهور ونشأة الأممالمتحدة، أدركت الدول أن ما يجمع شعوب العالم هو قطعًا أكبر مما يفرق بينهم، وهو ما زكى الشعور بضرورة وجود احترام وتعاون متبادلين، وتفاهم عميق لدى العديد من دول العالم، والسعي نحو إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية لكافة الشعوب، مما يقتضي عدم اللجوء لاستخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، واللجوء إلى تسوية المنازعات الدولية وإزالتها بالوسائل السلمية، وهو ما تضمنه ميثاق الأممالمتحدة. ولذا بات مبدأ حظر وتحريم استخدام القوة أهم المبادئ التي يقوم عليها تنظيم العلاقات الدولية المعاصرة في ظل نظام الأممالمتحدة، وهو ما يعد بمثابة ثورة على مفاهيم القانون الدولي التقليدية، حيث حرم الميثاق في فقرته الرابعة من المادة الثانية وبصفة قاطعة استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في مجمل العلاقات الدولية. وحرص واضعو الميثاق على جعل التسوية السلمية للمنازعات مبدأ أساسيًا تلتزم به الدول الأعضاء، وتلتزم كذلك المنظمات باحترامه والعمل بمقتضاه، وفي سبيل تحقيق تلك الغاية فقد نص الميثاق على أن أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر يجب عليهم أن يلتمسوا حله بادى ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجؤوا إلى الوكالات والمنظمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارهم. ولكن هذا المبدأ يرد عليه قيدين واستثنائيين يجوز بمقتضاهما اللجوء لاستخدام القوة، أولهما: حق الدول في الدفاع الشرعي عن النفس فرادى وجماعات، إذا ما تعرضت لهجوم مسلح، ولا يعتبر استعمالها القوة في هذه الحال عدوانًا، وإنما يصبح مشروعًا ومتوافقًا مع نص وروح الميثاق. والاستثناء الثاني: حالة تدابير الأمن الجماعي المتخذة بموجب قرار من مجلس الأمن استنادًا إلى الفصل السابع من الميثاق، إذا ما وجد تهديد للسلم والأمن الدوليين أو انتهاك فعلي لهما. ولكن في ظل الفوضى العارمة التي يشهدها المجتمع الدولي في الآونة الأخيرة تحت مظلة الأحادية القطبية للولايات المتحدةالأمريكية التي تهيمن على العالم، بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي، بات انتهاك هذا المبدأ وخرق القانون الدولي والمعاهدات الدولية والخروج على الشرعية الدولية وعدم الاكتراث بالمؤسسات والأعراف الدولية، واستباحة الدول من قبل الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص سمة تميز بها هذا العصر. فعلى سبيل المثال، نرى الولاياتالمتحدةالأمريكية – وحلفاؤها – تصب جام غضبها وتشن حربًا على العراق، بل إن شئت فقل ترتكب جريمة دولية بمنتهى الوحشية والبربرية، متمسكة بمزاعم واهية كاذبة، ضاربة عرض الحائط بميثاق الأممالمتحدة الذي نص صراحة على تحريم استخدام القوة، أو التهديد بها في العلاقات الدولية، وحث الدول على اللجوء لتسوية المنازعات التي تنشأ بينهم بالطرق السلمية دون غيرها حفاظًا على السلم والأمن الدوليين، وهو التزام عام وشامل، ويمثل قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي، لا يجوز خرقها أو الاتفاق على مخالفتها. إلا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية – والدول الحليفة لها – أبت إلا انتهاك هذا المبدأ انتهاكًا جسيمًا، وقامت بالعدوان على العراق واستخدام القوة المفرطة ضده وتدميره واحتلاله، رغم كونه دولة ذات سيادة وعضو بهيئة الأممالمتحدة. والأمر ذاته ينطبق على الحرب التي شنتها على أفغانستان وغيرها من الدول، مبررة ذلك بعدم حاجتها الحصول على إذن من أحد للدفاع والزود عن مصالحها وأمنها القومي. ولهذا لم تراع القواعد والمعايير والمبادئ القانونية التي يجب الالتزام بها، بل راحت تضفي على جلّ أعمالها وتصرفاتها مبدأ سيادة قانون القوة، بدلاً من سيادة قوة القانون، في ظل خضوع وخنوع تام من قبل منظمة الأممالمتحدة التي بات دورها مهمشًا وتابعًا لإرادة ومشيئة الولاياتالمتحدة، التي ظلت تسعى نحو جعل الأممالمتحدة وسيلة من وسائل الدبلوماسية الأمريكية لفرض الهيمنة على النظام الدولي، وتعزيز المفاهيم والمعايير الغربية على الدول غير الغربية. وأصبح التأثير الأمريكي جليًا واضحًا على منظمة الأممالمتحدة، وخاصة على أحد أجهزتها الرئيسة وهو مجلس الأمن، الذي بات يعمل وفق آليات تخدم تحقيق أهداف ومصالح السياسة الخارجية الأمريكية، وتنفيذ سياسات مضادة للدول التي تتعارض سياستها مع السياسة الخارجية الأمريكية، مما يمكن معه القول: إن مجلس الأمن في الكثير من الأحيان أصبح مجرد أداة مسخرة لإضفاء المشروعية على الأفعال والسلوكيات والانتهاكات غير المشروعة للولايات المتحدة ولغيرها من الدول الكبرى، لتبدو هذه الأفعال غير المشروعة وتلك الانتهاكات الجسيمة وكأنها متوافقة وغير مخالفة لأحكام وقواعد القانون الدولي.