تحدثنا في المقال السابق عن أزمة القانون الدولي في ظل النظام الدولي الجديد، واستكمالاً لما سبق ذكره، تمكنت الولاياتالمتحدةالأمريكية بالفعل من تسخير منظمة الأممالمتحدة، كأداة من أدوات الهيمنة، لخدمة أهدافها ورعاية مصالحها، وشرعنة كل نهج أو فعل أو تصرف يصدر عنها، ويخرج عن إطار الشرعية الدولية، متجاوزةً بذلك قواعد وأحكام القانون الدولي الراسخة، على النحو الذي أفقد هذا القانون ذاتيته وفاعليته وإلزاميته، وبدا بموجبه هشاً، كالطبل الأجوف الذي يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات فراغ، أو كسرابٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. ولم تعد الولاياتالمتحدةالأمريكية تسمح للأمم المتحدة بالقيام بأي دور حقيقي في إدارة وتسيير الشئون الدولية، وخاصة فيما يتعلق بمعالجة الأزمات والمنازعات التي تهدد السلم والأمن الدوليين، صحيح أن هذا الدور لم يكن فاعلاً وقوياً على النحو المنصوص عليه في الميثاق، وكان يتآكل باستمرار في ظل الاختلال في موازين القوى الدولية، لكنه كان موجوداً وحاضراً ولو بصورة باهتة. ولكن عملية التآكل هذه باتت تشرف الآن على نهايتها، لأن الأممالمتحدة تحولت بالفعل لمجرد محلل لما يريده الطاغية الأمريكي المهيمن على النظام الدولي، مغفلةً بذلك المصالح العليا للمجتمع الدولي، ومغلبةً عليها المصالح الأمريكية الفئوية. وخير مثال على ذلك، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، وجدت في حرب الخليج الأولى فرصة سانحة لتأكيد زعامتها للنظام الدولي الجديد، وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، لتحقيق ما لا حصر له من الأهداف والأطماع اللا محدودة، فسخرت الأممالمتحدة لإصدار القرارات التي تضفي الشرعية على تدمير العراق وتفتيت قوته، في تناقض تام لميثاق الأممالمتحدة. فتمت استباحة السيادة الوطنية للعراق، تحت مظلة الشرعية الدولية، حيث أصدر مجلس الأمن، بإيعاز من الولاياتالمتحدة، العديد من القرارات التي تضمنت فرض العقوبات الاقتصادية على العراق، وإرسال فرق التفتيش التي كانت بمثابة جواسيس تعمل لصالح الولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني، وهدد مجلس الأمن باستخدام القوة ضد العراق في حال عدم امتثاله لقراراته. وبالرغم من امتثال العراق، وعدم وجود أسلحة الدمار الشامل المزعومة، إلا أن الأممالمتحدة رفضت رفع العقوبات الاقتصادية المطبقة بحقه، لسحقه سياسياً واقتصادياً تمهيداً لغزوه، وهذا ما دفع اثنان من كبار الإداريين في الأممالمتحدة وهما، دينيس هاليداي، وهانز سبونيك – المسؤولين عن برامج الإغاثة الإنسانية في العراق تحت غطاء النفط مقابل الغذاء- إلى الاستقالة احتجاجاً على جدول أعمال الحصار، حيث أعرب هاليداي في سنة 1998م، قائلاً: "إننا نقوم بتحطيم مجتمع بأكمله، إنها حقيقة بسيطة ومرعبة". وشبه آثار الحصار الاقتصادي "بالإبادة الجماعية لشعب العراق". وعبّر نعوم تشومسكي، عن هذا الأمر قائلاً: "إن الحصار ضد العراق ليس سياسة خارجية، بل قتل جماعي متفق عليه، والعالم بأجمعه يتفرج على هذا القتل الجماعي". ورغم الإصرار الشديد الذي أظهرته الولاياتالمتحدةالأمريكية، تجاه بعض بنود قرار مجلس الأمن رقم (687)، المتعلقة بإزالة وتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، إلا أنها غضت الطرف عن أحد بنود هذا القرار التي تهدف إلى إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي فإن هذا البند يلزم الكيان الصهيوني بالكشف عن ترسانته النووية وإخضاعها للرقابة تمهيداً لنزعها والتخلي عنها. وفي نهاية المطاف، انتهى التعامل مع الملف النووي العراقي، بغزو العراق واحتلاله، بالرغم من عدم وجود دليل مادي يؤكد على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل أو دعمه ومساندته للإرهاب. وفي الوقت ذاته، لم يتم إخضاع البرنامج النووي الصهيوني للرقابة والتفتيش، كما هو الحال بالنسبة للعراق. وفي اتجاه آخر، لم تحرك الولاياتالمتحدة أي ساكن بشأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية التي تجاهر ليلاً ونهاراً بامتلاكها لقدرات نووية هائلة. كما قامت الولاياتالمتحدة بتغيير وتطويع بعض القواعد والمبادئ القانونية الثابتة والمستقرة، على النحو الذي يحقق أهدافها ويضمن الحفاظ على مصالحها الحيوية، ومن ذلك على سبيل المثال، الالتفاف على أحد القواعد القانونية الدولية الآمرة، التي لا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها بأي حال من الأحوال، وهي قاعدة حظر استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية. وبالتالي فإن أي شكل من أشكال استخدام القوة أو التهديد باستخدامها يعد خرقاً وعملاً غير مشروع يتنافى مع قواعد ومبادئ القانون الدولي العام. ولكن الولاياتالمتحدة تعمدت انتهاك هذه القاعدة، وقامت باستخدام القوة المفرطة، ضد العراق وضد غيره من الدول الأخرى، بدعوى حفظ السلم والأمن الدوليين، لأن العراق من منظورها الخاص يمتلك أسلحة الدمار الشامل التي يهدد بها الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول، ويقدم الدعم اللامحدود للخلايا والمنظمات الإرهابية، كما سبق وأن أشرنا. معللةً ذلك بأنها تمارس حقها في الدفاع الشرعي الوقائي عن النفس. ومن ثم، أضحت الولاياتالمتحدةالأمريكية بسب هيمنتها على العالم، كالحاكم بأمره دون منازع في المسائل الدولية، فنجدها تمارس كل أشكال العنف والتطرف والإرهاب والهمجية والبربرية تحت مسمى الدفاع المشروع عن النفس، وفي الوقت ذاته تصف دفاع بعض الدول المشروع عن النفس، كفلسطين مثلاً، بالإرهاب والتطرف والعدوان ضد الكيان الصهيوني. وتصف امتلاك الأخير لأسلحة الدمار الشامل، بحقه في امتلاك مقومات الأمن والحماية، للزود والدفاع عن نفسه ضد أية مخاطر قد يتعرض لها. وبالتالي أصبح مصطلح الشرعية الدولية في ظل الهيمنة الأمريكية مصطلحاً واسعاً فضفاضاً، تحاك خيوطه بأنامل لا تعرف إلا الدقة والإتقان، وفقاً لمتطلبات المشيئة والإرادة الأمريكية، التي تسعى إلى حماية مصالحها وتبرير عدوانها على الحقوق والمصالح المشروعة للغير، لفرض نهجها وقيمها على العالم.