لم يكن قرار الدول الأربعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر بقطع العلاقات مع قطر مفاجئا، ومع كون الخلاف بين هذا التكتل وقطر ليس خلافا جوهريا جاءت الاتهامات السعودية والخليجية لقطر بدعم الإرهاب مضحكة من أطراف كانت ولم تزل فاعلة في خلق وتشكيل منظومة الإرهاب الوهابي المسلح. قد لا يعرف الكثيرون أن قطر كانت الطرف المبادر والأسبق للمساهمة الفاعلة في تخريب سوريا (تمويلا وتسليحا وتجنيدا) ورافقتها تركيا المنفذ الحدودي الرسمي لقوى الإرهاب هناك، ولحقت بهما مملكة آل سعود بعد نحو عام من بداية الحرب السورية، تلك الحقيقة في ذاتها مدخل لفهم جذور الخلاف الحالي الذي ارتقى إلى مرتبة الصراع بقطع العلاقات وما سيتبعه من تداعيات اقتصادية وسياسية، خلاف يعبّر في أحد وجوهه عن تفسخ وانهيار السياسات التلفيقية لبعض الأطراف العربية التابعة لأمريكا ومنظومة الغرب، من حيث استحالة بقاء "عنوان" للاستقلالية، ولو كانت نسبية وهامشية، تحت إدارة أو سلطة هي مرتكز للسياسات الاستعمارية في حقيقة الأمر، فالدولة القطرية – كالسعودية – تستطيع بالطبع التمتع بهامش للفعل والتوجيه العملي لبعض ما يحدث في الشرق الأوسط لكن على هذا أن يلتزم بالمظلة الأمريكية الكبرى وسقفها، وبأي مظلة وسقف آخرَين تقررها، من هنا جاء قطع العلاقات فَجرا بتوقيت المنطقة العربية بموازاة أول الليل تقريبا بتوقيت واشنطن. بوقوع ما سُمي بالقمة الأمريكية العربية الخليجية الإسلامية، بدا واضحا أن الحسم في الاتجاه الأمريكي الجديد – القديم نحو تطبيع عربي كامل ومُسبَق وغير مشروط للعلاقات مع الكيان الصهيوني هو محَدد رئيسي لا يمكن لطرف عربي داخل معسكر تلك القمة عدم الالتزام الواضح به، بالإضافة إلى محَدد آخر ملازِم هو العداء القاطع مع إيران وكافة مكوّنات محور المقاومة كما نص إعلان الرياض اللاحق للقمة، والذي لم تتجشم مملكة آل سعود عناء عرضه على الدول المشاركة وصدر بعد مغادرة وفودها للمملكة، الأمر الذي أثار حفيظة الدويلة القطرية التي أنفقت وتنفق مليارات الدولارات من أجل تشكيل "دور إقليمي" خاص بها، تجمع فيه بين وجهين: الأول كونها مشيخة عائلية خليجية نفطية ذات دور وظيفي في ارتكاز القوة العسكرية الأمريكية، المهدِدة لشعوب المنطقة ولإيران في آنٍ واحد، وفي تزويد الغرب بالنفط ورهْن احتياطات نفطها لقوة النظام العالمي وسوقه ومديريه، والثاني كونها منظومة سياسية تسعى للعب دور قيادي عابر لحدودها بعنوان "عربي إسلامي" يرث النفوذين المصري والسعودي ويحل محلهما، ويستخدم في ذلك أوراق لعب وضغط للتفاوض مع الكيان الصهيوني باسم العرب ول"تحييد" الدور الإقليمي لإيران (دون إقصائه على الطريقة السعودية) وفتح الطريق أمام حل تصفوي للقضية المركزية في فلسطين، حل تذهب له الشعوب والأنظمة العربية برعاية قطرية تستخدم الإخوان المسلمين كأداة لمشروعها، ويأتي في سياق "الإصلاح" و"الديموقراطية" والتعايش السلمي وغيرها من الشعارات والعناوين التي تبنتها قطر، مع استقدامها لآلاف من المدربين والإعلاميين والمثقفين انخرطوا في تقديم دورات تدريبية في الديموقراطية وحقوق الإنسان لشباب عربي وشغّلوا العشرات من المنابر الإعلامية تزيّف نفس تلك الأفكار، في دويلة لا تعرف الانتخابات وتقبع فيها قاعدة عسكرية استعمارية ضخمة، تماما كما أعلنت حماس في وثيقتها التمسك بكامل التراب الفلسطيني من على بعد كيلومترات قليلة من نفس القاعدة. صراع على الوكالة يعود انضمام وفاعلية قطر في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد إلى سنوات طويلة مضت وليس فقط إلى حضورها البارز في قمة ترامب آل سعود، التي مثّلت قمة هذا المشروع في جانب ونقطة البداية لنهايته في جانب آخر، ومن المفروغ منه أن إجراءات ك"اتصال هاتفي بين الأمير تميم والرئيس الإيراني روحاني" وما شابهها لا تنفي الطبيعة الوظيفية لدويلة قطر ذاتها، بكل انعكاسات تلك الطبيعة في الاقتصاد والسياسة الإقليمية والدولية والتوجهات السياسية العامة، فما يجمع قطر بجيرانها من مشيخات الخليج وعلى رأسها مملكة آل سعود أعمق كثيرا من الشد والجذب النابعين من تناقض ثانوي وليس رئيسيا، والدليل الأبلغ على ذلك هو إزاحة قطر للضغوط التي تُمارَس عليها إلى حماس تماما كما تتمتع قطر بعلاقات ممتازة مع الكيان الصهيوني، تناقض كهذا يمكن فهمه بقراءة جذب قطر لحماس في بداية الحرب السورية والذي ترافق مع تمويلها وتسليحها للعشرات من الجماعات الإرهابية المخربة لسوريا، فخرجت حماس من سوريا التي قدمت لها عبر سنوات طويلة كل أشكال الدعم بلا حدود، من هنا فالعداء مع الكيان الصهيوني ليس أساسا أقيم عليه التحالف القطري الحمساوي وهو أبعد ما يمكن عن كونه "تحالف مقاومة"، ومن ناحية أخرى فمخيم اليرموك السوري ذو السيطرة الحمساوية الذي تم تسليمه للجماعات الإرهابية مع تقنية الأنفاق التي طالما ارتبطت في السابق بتقنيات محور المقاومة، شهود على أن حماس بدورها لا تقيم تحالفاتها على أساس هذا العداء أيضا. بعد سنوات من تشكيل قطر وصيانتها لمشروع الدور الإقليمي السابق ذكره، جاءت قمة ترامب آل سعود – والتي لم تفوّتها قطر – لتطرح أحد المكوّنات الرئيسية لهذا المشروع على أنها اتجاه عام بقيادة سعودية محضة، أي تقدم الشعوب العربية والرخاء الاقتصادي والسلام الكبير وتصفية القضية الفلسطينية بحل سلمي يضمن بقاء الكيان الصهيوني ومصالحه ومكافحة الإرهاب، وكلها بضاعة قطرية شكّل مجموعها رأس الحربة لمشروع الدور الإقليمي لقطر، لكن السقف المتفق عليه أمريكيا وسعوديا وإماراتيا ومصريا لا يشمل استخدام أوراق ضغط محتمَلة على الكيان الصهيوني أو أي ما يفيد التحدي للإرادة الأمريكية، كالتسامح مع أي قوى تنتهج المقاومة المسلحة أو تسعى لضمان قوة فلسطينية مسلحة خارج الحظيرة الأمريكية المباشرة على اتساعها، ومن هنا كان التناقض الثانوي بين هذا المعسكر من جهة والمعسكر القطري من ناحية أخرى وكان الانزعاج القطري، ومن ثم التراشق الإعلامي بين الجهتين الذي لم يشمل مضمونا سياسيا واضحا لتناقض حقيقي بين سياستيهما، وبعد ذلك الرضوخ القطري في الصراع بطرد عناصر حمساوية مسؤولة عن عمل الحركة في الضفة الغربية، رضوخ جاء متأخرا نسبيا بالقياس إلى عُمْر قمة ترامب آل سعود، مما يشير إلى أن حسم الضغط النهائي على قطر كان أمريكيا وليس سعوديا، في ظل تلميحات أمريكية – أحزنت القيادة القطرية حزنا بالغا – بالتفكير في نقل قاعدة العديد العسكرية الأمريكية من قطر إلى الإمارات. على أي حال فالوقائع الحالية تشير إلى فوز سعودي إماراتي جديد بمنصب الوكيل الرسمي الأمريكي، فوز يزيح أي وكيل آخر ولو امتلك أو يمتلك مشروعا متطابقا للوكالة، ويحصره في خانة "الشريك" فيها دون أن يكون في قيادتها، مع بقاء أطراف أخرى في خانة "التابع" كمصر والأردن.