ليس صحيحًا ما قد يبدو لأول وهلة من أن العولمة الثقافية تعني ترك الحرية الكاملة وإطلاق العنان للثقافات المتنوعة لكي تنطلق من عقالها وتغزو آفاقًا رحبة من العالم من أجل التفاعل مع الثقافات الأخرى في ظل ثورة المعلومات وتقنية الاتصالات وانفتاح الأسواق العالمية التي غزت العالم وباتت بمثابة الجسر الذي تعبر من خلاله تلك الثقافات من حيزٍ إلى آخر دون حدود لأبعاده وتأثيراته. ففي حقيقة الأمر، فإن العولمة الثقافية تشير إلى حالة من الهيمنة والتعبير عن قوى طرف معين ومصالحه، وبمعنى أدق فهي محاولة مجتمعٍ أو طرفٍ ما فرض وتعميم أفكاره ومفاهيمه وقيمه ومعتقداته ونموذجه الثقافي والحضاري بصفة عامة على المجتمعات الأخرى من خلال الاختراق الثقافي لها، بغية إذابة وتشويه وتفكيك خصوصية هذه الثقافات والمعتقدات وتفريغها من مضمونها، وإحلال بدلاً منها هذه الثقافة، التي تهدف في الأصل إلى القضاء على التنوع الثقافي والحضاري الذي وجد منذ حقب زمنية طوال. ولذلك فإن الهدف الأسمى للعولمة الثقافية في العصر الراهن هو محو وإزالة الهويات المختلفة للمجتمعات واستهداف القيم والثوابت الراسخة وطمس الخصوصيات الثقافية، ومواصلة واستمرار حركات التغريب وتعميم الثقافة الغربية في المجتمعات الأخرى – وعلى وجه الخصوص الثقافة الأمريكية – بغية فرض ثقافة شمولية واحدة على العالم أجمع، وتسييد الثقافة الرأسمالية الغربية لتصبح الثقافات الأخرى تابعة لها وماضية على نهجها ودربها. وبالتالي يمكن القول: إن العولمة الثقافية هي وجه من وجوه الهيمنة الإمبريالية وتجسيد لسطوة وهيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية على العالم وتأكيد لرغبتها ومشيئتها في اختراق الآخر وسلبه خصوصيته وتعميم نموذجها الثقافي على ما لا حصر له من دول العالم، وفي سبيل تحقيق تلك الغاية فهي تلجأ إلى استخدام قوتها الهائلة في ميادين الاتصالات والمعلومات والتقانة وغيرها من المجالات الأخرى. وكما أن للعولمة أهداف وغايات تسعى إلى تحقيقها، فلها كذلك بعض الآثار الإيجابية والسلبية، فبالنسبة للأولى، فقد ساهمت العولمة في تنمية ونشر بعض الثقافات، كالثقافة العربية والإسلامية على سبيل المثال- وإن كان ذلك في إطار ضيق ومحدود جدًا- في المجتمعات الغربية من خلال قنوات الاتصال المختلفة. أما الآثار السلبية للعولمة فهي كثيرة ومتعددة وأخطرها على الإطلاق على المجتمع العربي والإسلامي هو مسخ وطمس الهوية الإسلامية، وتصفية عقول أبناء الأمة وأفهامهم لتكون مجرد عقول تابعة ومنقادة للأفكار الهدامة التي يروج لها أعداء الأمة بين آنٍ وآخر، والتي تنسلخ في جلها من القيم والمبادئ والمعتقدات التي رسخها ديننا الحنيف. وهذا التوجه يفسره ويظهره بجلاء تلك الهجمة الشرسة التي وُجهت صوب المجتمع الإسلامي لتطويعه وفقاً للطريقة الغربية، التي قامت بتهيئة التربة المناخية الملائمة لتغريب العقل واحتلاله، وتفريغه من كل ما يمت للقيم والأخلاق والثقافة الإسلامية بأي صلة، واستبدالها بالقيم والمعايير والأنماط الفكرية التي تتجرد في جُلها من كل القيم النبيلة والفطرة السوية. إذ راحت دول الغرب تنفذ مخططاتها بمنتهى الهدوء والثقة والمهنية والاحترافية، لهدم وتقويض العقيدة والمنهج الإسلامي القويم، وإحلال بدلاً منه الفكر المادي المجرد، والفلسفة المادية التي طغت على الحضارة المعاصرة، فصارت الأنماط العقائدية وفقاً للتصور المادي البحت هو من قبيل الشأن الشخصي، وصارت المعتقدات الدينية المترسخة داخل النفوس البشرية، في نظر هؤلاء، ليست سوى انعكاسات سلبية ومباشرة للخرافات والبدع والهرطقة، التي لا ترقى إلى درجة السمو والقداسة. ويأتي حمل لواء الولاياتالمتحدةالأمريكية على وجه الخصوص والدول الغربية على وجه العموم الدعوة إلى هذا الفكر، لأنها ترى من منظورها الخاص أن معتقداتها وثقافتها وفكرها هم النهج القويم لقيام الحضارة دون عداه، إذ رأت هذه القوة مجتمعة في الفكر والنهج الإسلامي الخطر الداهم الذي ينبغي أن يفرغ من مضمونه، حتى تسود حضارتها وفكرها وثقافتها. لذا اتجه العالم الغربي نحو فرض هيمنته الفكرية والثقافية، وسعى نحو القضاء على النزعات الدينية والوطنية والقومية. ولتحقيق تلك الغاية المنشودة، سخرت هذه الدول قواها وأذرعها وأجنداتها، وكافة الأساليب والوسائل الملتوية، من أجل بلوغ غايتها وتحقيق آمالها وتطلعاتها. ومن المؤسف، فقد نجحت مخططاتهم نجاحاً مبهراً في استقطاب شرائح متعددة من العالم العربي والإسلامي، والسيطرة على عقولهم وألبابهم، فما لبثوا إلا أن صاروا أداة طيعة لينة يحركونها كيفما يشاؤون، فبتنا نرى الكثير من بني جلدتنا أضحوا ضحايا للتغريب الفكري، الذي أفقدهم هويتهم وانتمائهم لدينهم وأمتهم، انسياقاً وراء مخططات العدو التي تجنح نحو تفتيت وتفكيك الأمة الإسلامية، عقيدةً وثقافةً وتاريخاً وتراثاً، وإعادة صياغتها وفقاً للطريقة التي تلائم ثقافة وفكر العولمة. ومن أجل مواجهة هذه التحديات والحرب الشعواء التي تستهدف القضاء على أي تكتل ووحدة تجمع شمل هذه الأمة وتعيد أواصرها المتينة بمصدر قوتها وعزتها، نرى أن هذا التحدي الكبير يتطلب تفعيل بعض الآليات وتطبيقها على النحو الأمثل، ومن بينها التوعية بمخاطر وآفات الأفكار والثقافات الهدامة التي تروج لها الدول الغربية، وترسيخ الاعتقاد بوجود فارق كبير بين التعرف على فكر وثقافات وحضارات الأمم الأخرى، وبين اعتناق جل هذه الأفكار التي تتعارض مع قيمنا وثوابتنا الراسخة.