اختلف المفكرون العرب بشأن العديد من القضايا من أبرزها قضية التغريب، حيث ذهبوا فيها مذاهب شتى ما بين مؤيد للانصهار الكلي في الثقافة الغربية ونزع عباءة الثقافة العربية إلى الأبد؛ معللين ذلك بأن الثقافة العربية الإسلامية قد عفا عليها الزمن وأنها لا تصلح لأن تكون ثقافة الشعوب العربية في زمن العولمة والتقدم التقني، وآخر رافض لما ذهب إليه أهل التغريب، حيث شدد فريق من المفكرين العرب المسلمين على أنه يُحرَّم الأخذ من الغرب واستيراد أي شيء منهم، فكريًا كان أو ماديًا لأن ما ينتجه هؤلاء الغربيون سواء في ميادين الفكر أو التقنية إنما هو بدعة من شأنها أن تخلق منظومة اجتماعية مخالفة لتلك التي عاش في ظلها السلف. وما بين النقيضين السابقين برز تيار فكري يدعوا إلى المحافظة على الثقافة العربية الإسلامية، وضرورة اعتزاز العرب بها والعمل على إنمائها وإثرائها لتكون ندا للثقافة الغربية وتكون قادرة على حماية نفسها أما تحديات هذه الثقافة. مؤكدين أنه لا مانع من الاستفادة من منتجات الغرب الثقافية والمادية، لكن في إطار اتساقها مع الأصيل من الثقافة العربية وعدم تعارضها معه، مؤكدين أن الانصهار الكامل من شأنه أن يمحي هويتنا العربية الإسلامية، التي تعد من أهم الأسس التي يمكن أن ينطلق العرب منها لبناء حضارة جديدة خاصة بهم، مميزة حاملة لبصماتهم، مثل ما فعل أسلافهم من قبل، موضحين أن الاندماج في الآخر(الغرب) سيضيع ملامحهم الذاتية الخاصة بهم فمن شأنه أن يوطد تبعية العرب ويجعلهم هوامش تابعين للمركز الحضاري الغربي، وهو أمر لا يرضاه أصحاب حضارة كانوا هم المركز الحضاري والإشعاع الثقافي في يوم من الأيام. مؤكدين في نفس الوقت أنه إذا كان العرب يصبون إلى بناء حضارة إنسانية عالمية جديدة تتلافى أخطاء الحضارة الغربية وتؤسس لحضارة بشرية تحقق للإنسان إنسانيته بحق. فلابد من الاستفادة من المنتج الحضاري الغربي في إطار اتساق المستورد الثقافي والمادي مع أصول الثقافة العربية وروحها، لأن الحضارة هي مجهود إنساني متواصل، وما حضارة الغرب إلا استمرارا لحضارات غابرة عتيدة، استطاعت أن تأخذ ما يقيدها منها ودأبت على تطويره وتحديثه حتى وصلت الحضارة الغربية لما هي عليه الأن. وفي ضوء ما سبق وانطلاقا لبناء رؤية خاصة بنا إزاء قضية التغريب لابد أن نؤكد أن الاختلاف والتمايز بين بني الإنسان ضرورة لا غناء عنها لبناء الحضارة، فبدون الاختلاف الذي ينجم عنه التنافس بين البشر، الذي هو في ذاته الدافع الأكبر للإنسان على مر العصور للإنجاز والتقدم وبناء منظومته الحضارية الخاصة به، ما كنا اليوم نشاهد الحضارة الغربية بكل ما أتت به من منجزات فكرية ومادية غير مسبوقة. فإذا ما أردنا أن نصبح جزءا لا يتجزأ من الغرب فإننا بذلك نوقف الزمن عند الحضارة الغربية ونؤكد مقولة "فوكاياما" عن نهاية التاريخ القائلة بأن الحضارة الغربية هي الحضارة السرمدية إلى الأبد، وأنه لا قيام لحضارات أخرى تضارعها أو تتوفق عليها إلى نهاية الزمن. وهو أمر لا يتمناه عاقل لأن الحضارة الغربية وإن انطوت على بعض المنجزات المادية والفكرية إلا أنه يشوبها الكثير من العيوب التي تمغص حياة الناس بقدر أكبر مما تهونها عليهم. فالمخاطر البيئية والاجتماعية والثقافية المترتبة عليها تضر كثيرا بالبشر، دافعة الإنسانية لأن تبرز منظومة حضارية جديدة تحقق السلام للإنسان على كافة المستويات، سواء سلام مع خالقه أو نفسه أو مجتمعه أو محيطه المادي البيئي، الأمر الذي يملي علينا ألا نتوقف عند هذه الثقافة بل العمل على الاستفادة من جوانبها الإيجابية والعمل على صهرها في روح ثقافتنا العربية الإسلامية لنخرج للعالم أجمع منظومة إنسانية تضم الجميع بين جنباتها، وتحقق للإنسان سلامًا شاملًا عجزت عنه الحضارات الأخرى.. وبناء على ذلك فلابد من التبحر في ذواتنا وتنقية ثقافتنا العربية من شوائبها لنستخرج المعدن الأصيل لثقافتنا العربية الإسلامية ولنتخذ من الأصيل المستخرج روحا نستهدي بها في تحديد الإيجابي والحسن الذي يجب علينا استيراده من الثقافة الغربية من أجل أن نبني حضارة تحقق إنسانية الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معنى، لأن نقدم للبشر منظومة حضارية تحقق لهم السعادة وترسم على شفاههم الابتسامة بدلا من حضارة آلمتهم أكثر مما أسعدتهم.