في الوقت الذي تشتعل فيه الجبهات السورية بشكل مفاجئ، وترضخ فيه المفاوضات المنعقده في جنيف للمعادلات الميدانية الجديدة، تقفز إلى الواجهه بوادر أزمة تركية روسية جديدة، قد يفجرها التقارب بين موسكو والأكراد، الأمر الذي يُعيد إلى الأذهان الأزمة التركية الأمريكية القديمة، التي أدت إلى تدهور العلاقات بين الطرفين لنفس السبب. استدعت تركيا القائم بالأعمال الروسي، سيرغي بانوف، بعد مقتل جندي تركي، عندما أطلق عليه قناص النار من المنطقة التي تسيطر عليها فصائل كردية مسلحة في سوريا، وتنشر فيها روسيا عددًا من جنودها، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، حسين مفتو أوغلو، في مؤتمر صحفي بأنقرة: فور الحادث الذي وقع في منطقة حدودية بمحافظة هاتاي التركية، دعونا القائم بالأعمال الروسي إلى الوزارة، وأعربنا له في البداية عن استيائنا البالغ، وأضاف "مفتو أوغلو": طلبنا منهم تجنب أي حوادث مشابهة بعد هذا الحادث، ويجب القيام بكل ما هو ضروري، وقلنا إنه إذا تكرر ذلك، فسيتم الرد بالشكل المناسب، مشددًا على أن روسيا تتحمل مسؤولية الإشراف على وقف إطلاق النار في تلك المنطقة ومنع وقوع أي خروقات للهدنة. استدعاء تركيا للسفير الروسي جاء متزامنًا مع غضب تركي آخر من تعاون القوات الروسية مع وحدات حماية الشعب الكردية، التي تعتبرها أنقرة جزءًا لا يتجزأ من حزب العمال الكردستاني، الذي تُعده تركيا منظمة إرهابية خاضت معارك في السنوات الثلاثين الماضية من أجل الحكم الذاتي في جنوب شرق البلاد، الذي يغلب عليه الأكراد، وظهر هذا التعاون مؤخرًا في صور انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر جنودًا روسًا في سوريا يرتدون شارات وحدات حماية الشعب الكردية، وقالت مصادر دبلوماسية إن الصور أظهرت مشاركة عسكريين روس يحملون بأيديهم لافتات للقوات في احتفالية ل"عيد نوروز" في حلب، الأمر الذي أشعل الغضب التركي، ودفع وزارة الخارجية التركية إلى تسليم القائم بالأعمال الروسي في أنقرة رسالة احتجاج، وقال "مفتو أوغلو" في هذا الشأن إن الجانب الروسي يعلم تمامًا موقفنا حيال وحدات حماية الشعب الكردية، وبناء عليه فإن هذه الصور أثارت قلقنا، وأضاف أن تركيا تنتظر من روسيا أن تتخذ خطوات لإغلاق مكتب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي افتتح في موسكو الشهر الماضي. التقارب الروسي الكردي الذي تتخوف منه أنقرة لم يكن وليد الواقعتين السابقتين فقط، حيث تزايد الحديث مؤخرًا عن تقارب أو تعاون روسي كردي في سوريا يثير حنق وقلق أنقرة، وهو ما عده مراقبون طعنة روسية مفاجئة في ظهر أنقرة، التي من المفترض أنها تنسق مع موسكو عملياتها في سوريا مقابل عدم تعاون الأخيرة مع الأكراد، فقبل أيام، وبالتحديد الاثنين الماضي، أعلنت وحدات حماية الشعب الكردية توقيعها اتفاقًا هو الأول من نوعه مع روسيا، يقضي بتدريب مقاتليها في شمال سوريا في إطار "التعاون ضد الإرهاب"، وأشار المتحدث الرسمي باسم الوحدات الكردية، ريدور خليل، إلى أن اتفاقًا بين وحداتنا والقوات الروسية العاملة في سوريا في إطار التعاون ضد الإرهاب، يقضي بتلقّي قواتنا تدريبات على أساليب الحرب الحديثة، موضحًا أن هذا الاتفاق هو الأول من نوعه بهذا الشكل مع روسيا، برغم وجود تنسيق سابق على بعض الجبهات في حلب. وأشار "ريدور خليل" إلى أنه بموجب هذا الاتفاق وصلت قوات روسية مع ناقلات جند ومدرعات إلى منطقة جنديرس في "عفرين"، ووصف الناطق باسم الوحدات الاتفاق بأنه "خطوة إيجابية في إطار علاقاتنا وتحالفاتنا ضد الإرهاب في سوريا"، لافتًا إلى أن عملية التدريب ستبدأ قريبًا دون تحديد موعدها. وأرجع العديد من المراقبين تفعيل الجبهات السورية خلال الفترة الأخيرة وإشعالها مجددًا إلى طبخة تركية تريد أنقرة من خلالها الرد على التحالف الروسي الكردي في سوريا، حيث ترى أنقرة أن إشعال جبهات القتال ومحاولات اختراق العاصمة السورية دمشق سوف تؤدي إلى إشغال الجيش السوري والقوات الروسية بمعركة أهم مما قد تؤدي إلى إبعادهم عن التحالف مع القوات الكردية. ما يعزز هذه الرؤية هو توجيه وزارة الخارجية السورية رسالتين إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن، حول الاعتداءات التي تشنها جبهة النصرة والمجموعات الإرهابية المتحالفة معها على مدينة دمشق ومناطق أخرى في سوريا، حيث أكدت دمشق أن لديها معلومات تثبت تورط أجهزة المخابرات التركية والسعودية والقطرية في هذه الأحداث، حيث جاء في الرسالتين: تتعرض دمشق هذه الأيام لهجمات وحشية انطلقت من أحياء جوبر والقابون المجاورين للمدينة، تقوم بها المجموعات الإرهابية المسلحة بقيادة جبهة النصرة المصنفة دوليًّا على لوائح مجلس الأمن بأنها إرهابية، وقالت الوزارة إن التوجيهات صدرت من مشغلي هذه التنظيمات الإرهابية بفتح جبهات القتال في كل أنحاء الجمهورية العربية السورية، في انتهاك واضح لاتفاق وقف الأعمال القتالية الذي تم التوصل إليه في سبتمبر الماضي، والذي تم الاتفاق عليه في اجتماعات آستانة، وأيده اجتماع جنيف، ورحب به مجلس الأمن، والتزمت به سوريا. في ذات الإطار قالت وزارة الخارجية والمغتربين: إننا على قناعة تامة بأن الهدف الحقيقي لهذه الاعتداءات هو التأثير على مباحثات جنيف، والإجهاز على مباحثات آستانة والنتائج التي تم التوصل إليها، وتفيد المعلومات المتوافرة بثبوت تورط أجهزة المخابرات التركية والسعودية والقطرية في هذه الأحداث، كما بات الجميع يعرف أيضًا أن الدولتين الأخيرتين قامتا مؤخرًا بإرسال ملايين الدولارات إلى المجموعات المسلحة كرشوة لشن هذه الاعتداءات، وما يدل على ذلك هو تغيب المعارضات المسلحة التابعة لأجهزة الأمن التركية عن مباحثات آستانة الأخيرة وقيام أجهزة الإعلام الرسمية السعودية والقطرية بالإشادة نيابة عن حكوماتها بهذا الغياب. التعاون الأمريكي أو الروسي مع الأكراد يشكل خطًّا أحمر بالنسبة لتركيا منذ بداية الأزمة السورية، حيث سبق أن أثار هذا التعاون حنق أنقرة، ودفع نحو تدهور العلاقات التركية الأمريكية، حيث تعتبر واشنطن أن حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي، وجناحه العسكري المتمثل في وحدات حماية الشعب الكردي، الذراع اليمني لتحقيق أمريكا أهدافها في المعارك مع تنظيم داعش، وهو ما يدفعها نحو دعم هذه الوحدات عسكريًّا وسياسيًّا، وهو ما ظهر في التقدمات السريعة التي حققها المقاتلون الأكراد في شمال سوريا الشهر الماضي، بإسناد من قوات التحالف الأمريكي وبالاستفادة من غارات القصف الجوي الروسي؛ للسيطرة على مناطق قرب الحدود التركية. تحاول أنقرة دائمًا إبعاد القوات الكردية عن أي معارك ميدانية تخوضها أمريكا أو روسيا، فمع الحديث مؤخرًا عن قرب انطلاق معركة الرقة واحتمالية استعانة القوات الأمريكية بالأكراد في تحرير المدينة، خرجت أنقرة لتعرب عن تخوفاتها من هذا التعاون الأمريكي الكردي المزمع في الرقه، وأشارت حينها إلى أن إشراك وحدات حماية الشعب في عملية تقودها الولاياتالمتحدة لاستعادة الرقة "أمر غير مقبول"، وأكدت أن القوات التركية مستعدة للمشاركة في تنفيذ عملية الرقة بالتعاون مع التحالف الذي تقوده واشنطن على ألا تستعين أمريكا بالأكراد.