أعترف أني أحياناً أضبط نفسي متلبساً بسذاجة النظر إلى كثير من قرارات وإجراءات السلطة الحاكمة في مصر، ربما بسبب بقايا حسن نيةٍ لا زلت احتفظ بها في نفسي، وربما بسبب بقايا حسن ظنٍ لا زلت أحتفظ به لمن يحكموننا.! هذا الأسبوع ومع انفجار مواسير التسريبات مجدداً وجدتني مستغرباً بسذاجة من أن يخرج علينا إعلامي أمنجي يفخر بأمنجيته ليبُخَ في وجوهنا كل هذه القاذورات وروائح العفن. وربما كتبتُ مع الكاتبين على "الفيس بوك" أو "توتير" استنكر وأشجب وأدين وأعرب عن امتعاضي وربما "قرفي" من مثل هذا السلوك الخارج عن كل تقاليد المهنة وعن كل تقاليد المجتمع والداخل في أعلى مراتب كل تصنيف للبذاءة والانحطاط. وقلت مع القائلين بأن دولة "المخبرين" من حيث أرادت أن تغتال سمعة البرادعي أسقطت اعتبارها وأفقدت نفسها كل احترام، وهزت أساس شرعيتها بحميرية لا تحسد عليها. وربما تساءلت مع السائلين عما إذا كانت دولة المخبرين قد سمعت من قبل بما يعرف في التاريخ الحديث للولايات المتحدةالأمريكية باسم "فضيحة ووترجيت"، وما آلت إليه مصائر هؤلاء الذين شاركوا في تلك الفضيحة؟ ولعلي لا أجازف بالقول إن أحداً من كبار رجال دولة المخبرين قرأ أو سمع أو تعرف من قريب أو بعيد عما جرى في أمريكا بدايات عقد السبعينيات من القرن الماضي، أثناء معركة التجديد للرئاسة التي خاضها الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1972 وهو الذي كان قد فاز على منافسه الديمقراطي هيوبرت همفري بصعوبة شديدة قبلها بأربع سنوات حيث حصل نسبة 43.5% مقابل 42%، ودفعه هذا الموقف الصعب إلى التنصت على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترجيت. وفي 17 يونيو 1972 ألقي القبض على خمسة أشخاص في واشنطن بمقر الحزب الديمقراطي وهم ينصبون أجهزة تسجيل مخفية. تفجرت أزمة سياسية هائلة بعد أن تبين أن البيت الأبيض كان قد سجل 64 مكالمة، وتوجهت أصابع الاتهام إلى الرئيس نيكسون الذي بادر إلى الاستقالة بعدما افتضح الأمر وتمت محاكمته بسبب الفضيحة، ولم ينجو منها غير بالعفو الرئاسي الذي أصدره في 8 سبتمبر 1974 الرئيس الأمريكي جيرالد فورد الذي كان نائباً لنيكسون وتولى الرئاسة خلفا له ليستكمل مدته الرئاسية. سذاجتنا هي التي يمكن أن تصور لنا أن الأمر يمكن أن يتغير لو أن إعلاميي "دولة المخبرين" علموا بتفاصيل "الفضيحة"، وهي سذاجة متكررة منا مع كل فعل فاضح منهم، لا هم تابوا عن أفعالهم الفاضحة، ولا نحن تبنا عن سذاجتنا المفرطة.!! كل مرة نستغرب ونتعجب أن تأتي مثل هذه الأفعال من مثل هؤلاء الناس، مع أن الطبيعي هو أن مثل هؤلاء الناس لا تأتي على أيديهم إلا مثل هذه الفظائع.! لو أنها المرة الأولى كنا غفرنا لأنفسنا سذاجتنا، ولكنها المرة الألف بعد المرة الأولى، كل يوم لهم فضيحة وكل ليلة لهم فعل فاضح على شاشات التليفزيون.! خلال السنوات الأخيرة مارست الدولة العميقة الكثير من الممارسات التي تخرج عن كل ما استقر التعامل به من أدبيات وقواعد وأصول، ضربت بها جميعا عرض الحائط دولة المخبرين الجدد، فرأينا برامج من نوعية "الصندوق الأسود" مملوءة بتسجيلات لأفراد وشخصيات عامة ومعروفة وشخصيات لم تكن معروفة وشهرتها وشهَّرت بها تلك التسريبات التي اجتاحت الحياة السياسية بعد قيام ثورة يناير 2011. ولم يكن مستغرباً أن تكون التسريبات كلها في اتجاه واحد، اتجاه تصفية الاعتبار والاغتيال المعنوي لكل من عارض أو يمكن أن يعارض السلطات الحاكمة الأساسية في البلد التي احتفظت بمكانها واستعادت مكانتها بالتدريج حتى صارت هي صاحبة الكلمة في دولة ما بعد 30 يونيو 2013. صحفيون وإعلاميون معارضون بقوا في مهب ريح التسريبات طول الوقت حتى تم التخلص منهم جميعا، وخلصت للأمنجية شاشات التلفزة وخلت للتابعين لهم ساحة الاعلام…! سياسيون ونشطاء وشخصيات عامة جرت في مواجهتهم أكبر عملية اغتيال شخصية عبر التسريبات، وكأن دولة المخبرين العائدة أرادت أن تأخذ ثأرها من كل من تجرأوا في يوم من الأيام عليها فعادت لتصفي حساباتها القديمة معهم وكانت التسريبات هي الوسيلة الأنجع في اهدار اعتبارهم أو على الأقل تخويفهم واسكاتهم وشل قدرتهم على التأثير في المشهد السياسي، ومن ثمَّ إبعادهم خلف كثبان الفضيحة أو انزوائهم خلف جبال النسان. حتى الرجل الذي ترك لهم الجمل بما حمل وهجر البلد وسافر إلى هجرة اختيارية ولم يعد له أي وجود فاعل على الأرض، يتعاملون معه بطريقة توحي بأنهم يخشون منه شيئاً ما لا نعرفه.! ربما انتابهم الخوف من الظهور الإعلامي للبرادعي ومحاولته الاشتباك مجدداً مع الأحداث السياسية، أو ربما يخشون من شيء ما يتصورون أنه سوف يدلي به خلال الحوار معه على تليفزيون العربي، فبادروا إلى الهجوم الوقح خوفا مما يمكن أن يدلي به من معلومات تخص ما جرى بعد 30 يونيو في مصر وقد كان عنصراً فاعلاً في الأحداث بعدها لعدة شهور.! النظام الذي كان في حاجة ماسة لعلاقات البرادعي وصلاته الدولية في أعقاب 3 يوليو 2013 يجد نفسه اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات يخشى من هذه العلاقات وتلك الصلات خاصة وهو مقبل على إعادة تموضع في العلاقات مع دولة بحجم وتأثير الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو بدون شك لا يريد لأحد سواه أي قدرة على الوصول إلى آذان تلك القوى الدولية، فجاءت الرسالة العصبية الموجهة إلى البرادعي:" اغلق فمك". وانفرد كبير المخبرين بإذاعة تسريبات صوتية للبرادعي عبر تسجيلات لاتصالاته الهاتفية، وفي غمرة تشويه السمعة الذي أرادوه ضد البرادعي نسوا أو تناسوا أن أحد هذه التسجيلات يتضمن مكالمة له مع الفريق سامي عنان أثناء توليه منصب رئيس أركان القوات المسلحة لتثبت دولة المخبرين أنها ليست فقط تسجل على نفسها ولكنها أيضا "تسرب" على نفسها.! ولستُ في وارد الحديث عن مضمون وفحوى المكالمة المسربة فهي شأن لا يعنينا، ولكن ما يعنينا أنها أظهرت حجم التردي والفوضى السياسية والأمنية الغير مسبوقة في الدولة المصرية. لم يدرك الذين انفردوا بهذه الفضيحة أنهم يذيعون اتصالات هاتفية لرئيس أركان الجيش المصري حال توليه منصبه، وفي غمرة فرحهم المجنون بصيدهم العفن لم يدرك الذين أفردوه بهذه الفعل الفاضح أنهم ليس فقط سجلوا لقائد كبير في الجيش بل وسربوا أيضا تلك التسجيلات لتذيعها فضائية مصرية، فأي خبل هذا، وأي استهتار وأي استكبار؟، وهو من دون شك نوعٌ من الخبل لا يجوز أن يمضي هكذا بدون تحقيق وتدقيق وحساب وعقاب. أما موضوعات مثل التسجيل خارج إطار القانون، والعبث بخصوصية الاتصالات الهاتفية للمواطنين وعدم احترام الدستور فتلك موضوعات يثيرها المتمسكون حتى اليوم بسذاجتهم المفرطة في التعامل مع دولة المخبرين الجدد.!