أى جائزة كبرى ممكن أن تحصل عليها إسرائيل و«ماما أمريكا» أفضل من تلك الجائزة التى تتجسد فى وضعية مصر الراهنة بعد عام من حكم الإخوان.. وهى تبدو فريسة مهيضة الجناح.. ينهش بعض أبنائها فى لحمها غير عابئين بالأم.. ناهيك عن أشقائهم فى الوطن الذين يحاولون نفيهم وإقصاءهم من الحياة والدنيا! مصر التى هى أكبر دولة عربية عددًا وعدة، وإهم دولة عربية موقعًا وموضعًا كما يشرحها أبو الجغرافيا د.جمال حمدان.. بل هى من أعرق الحضارات التى أنجبتها البشرية واسألوا «هيرودوت» عندما علمت الدنيا حروف الهجاء الأولي. مصر تبدو الآن بعد ما أسموه الربيع العربى الذى تحول بفعل فاعل إلى الجحيم العربى دولة مرتبكة، ممزقة، منشطرة شطرين.. منذ الإعلان الدستورى المدمر لا المكمل فى نوفمبر الماضى كما أسماه د. مرسى الذى ربما كان يؤذن به لتقسيم البلاد.. شطرين. شطرين شطر يتاجر بالدين، وهو يدلس على الناس والعباد، ويدفع بالجماهير العريضة والبسيطة إلى ما يشبه الغياب والغيبوبة ليتم تبديد الوطن وقيمة الوطنية وتحويله إلى ولاية إسلامية مزعومة!! ثم هو يدعى أن العصمة له وحده ويحاول أن يقصى الآخر.. لأنه يملك الحقيقة المطلقة مع السلطة المطلقة رافعًا شعار إسلامية.. إسلامية. أما الشطر الآخر فيريد لها أن تكون دولة موحدة كعهدها على العصور والأزمنة والحضارات منذ عهد الملك مينا.. ويريدها أيضًا وطنية، حديثة، ديمقراطية، ينعم فيها كل الشعب المصرى على اختلاف مشاربه، وتياراته، وانتماءاته، بكل الحقوق والواجبات، باختصار يريدها دولة القانون، التى ترفع رايات الاستقلال الوطنى أساسًا والحريات للجميع والعدل مظلة تقى الشعب والحاكم. لقد حذرنا المفكر والمناضل الفرنسى منذ ثورة الجزائر فى الستينيات من القرن الماضى «فرانس فانون» فى كتابه المهم «المعذبون فى الأرض» من تلك القوى الاجتماعية الوطنية التى ستستولى على الحكم بعد التحرر من الاستعمار الأجنبى التقليدي.. لتصبح أكثر شراسة، واستغلالًا من ذاك الاستعمار الأجنبي.. وربما من هنا سمت نفسها بنفسها «الاستعمار الوطنى».. لأنها ترتدى المسوح الوطنية.. والوطنية منها براء.. لأنها تقتفي أثر الاستعمار القديم.. وتعيد إنتاجه من جديد.. فضلاً عن كونها فى حقيقة الأمر تتبعه وتنفذ أغراضه.. فهى تتميز بالتبعية وإن كذبت على شعوبها!! لأنها تقدم الذاتى على الموضوعي، والوطني.. والوقتى والتكتيكى على المستقبلى والاستراتيجي.. ومن هنا يؤكد الباحث «محمود أبوالقاسم» قائلاً «لقد بيعت الأوطان فى أسواق النخاسة، حيث أصبحت مصالحها العليا وأمنها القومى وثرواتها سلعة قابلة للبيع والشراء بين قيادات تافهة، صنعت فى ظل الاستبداد واعتادت الخضوع والاستعباد، بالإضافة إلى تدمير البنى التحتية لوعى المجتمع وأفكاره وثقافته وثوابته التى اهتزت بعنف». وقد أوجز فأوفى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى حواره الأخير مع اللامعة «لميس الحديدى» عندما قال: إن الانفلات فى السلطة أقوى من الانفلات فى الشارع ولهذا لا يلوم الشارع وإنما يكيل الاتهامات للسلطة التى لا تقدِّر قيمة مصر الدور والتاريخ والحاضر والمستقبل. ربما لهاث وتكالب الإخوان وفى المقدمة منهم د. محمد مرسى ومن قبله وبعده الجماعة والمرشد فى آن.. انهماكهم جميعًا فى أخونة الدولة.. وما يعرف بمرحلة «السيطرة والتمكين» على المؤسسات الكبرى والأجهزة السيادية أعمتهم عن مهمتهم الأولى والأساسية فى التقرب إلى الجماهير أولاً.. لكى يلبوا الاحتياجات الأساسية.. أو يقتربوا من بعض من مبادئ ثورة 25 يناير.. ومن هنا تعمدت تلك الجماعة أن تكرر السلم الاجتماعي.. وهى تشيع الغضب والفوضى فى نفوس كل الفئات المصرية مما جعل الناس في النهاية يشعرون باليأس والإحباط.. وبأن «الطريق مسدود»!! فضلا عن أن الجماعة فضمت نفسها بنفسها.. فى سلسلة الفشل التى منيّ بها الرئيس والجماعة فى آن.. وهو يعبر عن القضايا الكبرى والانصياع الفاضح لماما أمريكا ومن قبلها فتاة الغرب المدللة إسرائيل.. والتى تبادل معها د.مرسى خطاب التهنئة الشهير لشيمون بيريز.. وناداه فيه بالصديق العزيز وتمنى لدولته الرخاء والتقدم!! فى حين يصدم د.مرسى الشعب المصرى عندما قرر فجأة قطع العلاقات مع سوريا التى تعتبر رئة مصر وشرفتها العربية التى تطل منها على قارة آسيا.. وهو يحاول إغلاقها بالضبة والمفتاح تحت دعوى الجهاد وضد «بشار» المستبد.. لكنه فى حقيقة الأمر يعبر عن الرغبة الأمريكية العليا فى حصار سوريا وتفتيتها إلى كيانات هزيلة تصبح صيدًا لإسرائيل الكبرى!! ثم إذ به ينتقل إلى إفريقيا.. فى الاجتماع الفضائحى الذى حاول فيه تعرية المعارضة «الإسلامية» فإذ به يفضح أهله وعشيرته بالأساس.. ويصفهم بالفاشية والجهل.. بل إن معظم دول العالم انتفضت من هذا المؤتمر الذى أذيع على الهواء ونشروا فيه كل الملابس القذرة والبالية وهم يتبادلون الآراء فى محاولة للسيطرة على مصر وعلى النيل ومنابعه بالقوة الجبرية والاستبداد، لا بالحوار والتوافق، وإيجاد حلول بناءة لكل بلاد حوض النيل وعلى رأسهم بالطبع «مصر».. وكأنهم يعتقدون فى خرافة مؤداها أن الدنيا بأسرها لا تتسع سوى لأقدامهم!! ومن يمعن فى قراءة الخريطة السياسية والجغرافية لمصر فى وقتها الراهن.. ويشاهد الاحتجاجات والمظاهرات.. اللاهبة والساخطة قبل 30 يونية الموعود.. ويتوقف بمر المحافظات التى رفضت أخونتها بشكل قاطع.. عندما رفضت المحافظين الجدد فى «الأقصر» والغريبة «بطنطا».. يشعر بأن زمن الإخوان بات يترفح ولا نقول يأفل! فهم يسعون حثيثًا إلى هزيمتهم السياسية.. فالإخوان وعبر لقاءاهم بالزعيم الملهم د.مرسى نداهم فى العد التنازلي.. فقد بدأ لقاءاته بالأهل والعشيرة من أمام سور الاتحادية والدفاع عن الإعلان المكمم ثم انتقل بهم إلى استاد القاهرة الأقل حشدًا.. ثم تضاءل هذا الجمع وانكمش داخل قاعة المؤتمرات بمدينة نصر، وأخيرًا أخذهم فى الصالة المغطاة ليعلن الجهاد على الطريقة الأمريكية.. وأخشى بعد ذلك فى قادم الأيام.. أن يقودهم من داخل جامع «القدس» فى التجمع الخامس الذى يقطنه.. ومن ثم فى «كهف» الإرشاد الذى يتمركز فى جبل المقطم! ولعل القوى الوطنية مجتمعة.. وفى المقدمة منها شباب «تمرد» لا تريد إقصاء فصيل دون آخر من الفصائل المصرية الوطنية.. بل تبحث عن حلول حقيقية لدأب الصدع الوطني.. والتئام الشرخ ومحاولة شق الصف.. وبالتالى فض الغشاوة الفكرية والوطنية عن العقول المغيبة.. مع التمسك بالتمرد على التبعية ونفيها.. وتأكيد الاستقلال وحق الشعب المصرى فى استرداد ثورة 25 يناير.. ولهذا فأنا أهدى رسالة ومضمون الفيلم الإيرانى القصير.. والذى عرض فى مهرجان كردستان بالعراق.. ونال جائزة.. أن يقرأه الجميع لكى يستفيدوا من دروسه.. الفيلم اسمه «ديليت» وهو بلغة الكمبيوتر يعنى «الإزالة» أو المحو.. وهو قصير للغاية.. لا يتعدى سوى بضع دقائق.. لكن معناه يشعل الكرة الأرضية وهو يؤكد أنك لا تستطيع أن تمحو الآخر أو تقصيه أو تنفيه.. وفى اللحظة التى تحاول فيها نفى الآخر فأتت تنفى فيها نفسك بنفسك. ولهذا يبدأ بطل فيلم «ديليت» وهو يأكل شريحة «بيتزا».. وهو يلعب على شاشة الكمبيوتر الخاص.. فيمحو صورة زوجته، ثم صورة بعض الأصدقاء، بعض المعارف.. وهكذا يتصاعد إلى أن يحاول محو صورة العالم كله.. صورة الكرة الأرضية بقاراتها، ومحيطاتها وأنهارها!! وبغلطة غير مقصودة.. يمحو صورة نفسه شخصيًا.. وعندما يحاول استعادتها يفشل فشلًا ذريعًا.. وإلى الأبد!!.. فهل وصلت الرسالة؟ إننا مطالبون جميعًا بأن نعبر عن آرائها بحرية تامة فى 30 يونية تحديدًا.. وأن نخرج عن بكرة أبينا دون تباطؤ أو تبرير.. لكننا مطالبون أكثر بألا نقصى بعضنا بعضًا.. وألا نحاول أن نمحو وجود «الآخر» لا بالقوة ولا بالعنف ولا بالفعل أو القول.. لأن معنى ذلك هو بداية «لمحو» وجودى أنا شخصيًا.. وقديما قال المفكر الوجودى «سارتر» «الآخرون هم الجحيم».. لكن آن لنا أن ننفيها.. ويجب علينا أن نثبت للعالم وبالتحديد فى يوم 30 يونية.. أن الآخرين أشقاؤنا فى الوطن.. ومن هم فى الشطر الآخر من نهر الحياة المصرية.. حق علينا الاختلاف معهم.. لكن تظل حق لنا جميعًا المواطنة والمصرية.. ولا بد لكلمة «ديليت» أن تمحى من الشارع، ومن القاموس، والأعراف المصرية.. وأن تتحدد الثقافة المصرية.. والجائزة المصرية «بتمرد دون أن تمحو».. تمرد.. وقل رأيك بقوة.. دون عنف.. حتى تحبط مساعى مشعلى الحرائق، الذين يلطمون الخدود ويشقون الصدور.. فى محاولة لخلق حريق كبير يدمر مصر والمصريين قبل أن «يتجردوا» وهم يكبِّرون!!