كان حسن البنا الذي نصَّب نفسه إماما ومرشدا للإخوان يقول: 'إن الإمام هو واسطة العقد، ومجمع الشمل، ومهوي الأفئدة.. وظل الله في الأرض' ومن ثم فهو محصن ضد الانتقاد والاختلاف.. ولا يقر الشوري أو يعترف بها.. كتب صالح عشماوي القيادي الإخواني الأشهر الذي كان يتلقي البيعة نيابة عن البنا.. ورئيس تحرير الدعوة: 'عند أول عهدي بعضوية مكتب الإرشاد ثار البحث.. هل الشوري في الإسلام ملزمة أم غير ملزمة؟ وهل يتقيد المرشد برأي مكتب الإرشاد؟ وكان رأي المرشد أن الشوري غير ملزمة، وأن من حقه مخالفة رأي المكتب'.. وكتب د.عبد العزيز كامل: 'كان من رأي الأستاذ المرشد أن الشوري غير ملزمة للإمام، كتب هذا صراحة ودافع عنه ولم يتحول عن هذا الرأي وسري هذا منه إلي من حوله وفي أواخر الثلاثينيات كنت أسمع كثيرًا كلمة 'بالأمر' وهي كلمة عسكرية تعني أن تفعل هذا كما هو مأمورًا به من مستوي أعلي'. وأغلب الظن أن أفكار أبو الأعلي المدودي أمير الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية الباكستانية قد راقت للبنا وصادفت هوي في نفسه.. وكان المودودي يقول: 'لا ينتخب للإمارة إلا من كان المسلمون يثقون به وبسيرته وبطباعه وبخلقه فإذا انتخبوه فهو ولي الأمر المطاع في حكمه ولا يعصي له أمر ولا نهي'.. ويقول: إن الإمام أو الأمير من حقه أن يملي رأيه حتي علي الأغلبية، فالإسلام لا يجعل من كثرة الأصوات ميزانًا للحق والباطل.. فإنه من الممكن في نظر الإسلام أن يكون الرجل الفرد أصوب رأيًا وأحد بصرًا من سائر أعضاء المجلس'. بهذه الروح دخل البنا وجماعته معترك السياسة بعد عشر سنوات من نفي الاهتمام بالسياسة والبعد عنها.. وجاء الإعلان عن العمل بالسياسة في العدد الأول من النذير مايو 1938 والتأكيد أن الجماعة سوف تنتقل من دعوة الكلام وحده إلي دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال، ثم انهمر كلام البنا يؤكد ويوضح 'الإسلام الذي يؤمن به الإخوان يجعل الحكومة ركنًا من أركانه، ويعتمد علي التنفيذ كما يعتمد علي الإرشاد.. والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول.. فالإسلام حكم وتنفيذ كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء'.. وفي كل ذلك ظل البنا إمامًا في السياسة كما كان إمامًا في الجماعة ذات التوجهات الدينية والأخلاقية.. فانفرد بالسلطة ولم يقبل من أتباعه أقل من السمع والطاعة والإذعان الكامل.. وتضخمت عنده النزعة الفردية.. واستبعد عددًا من القيادات التي شاركته التفكير والتأسيس لمجرد الاختلاف في الرأي.. وبدأ يمارس التعالي والاستقواء ويهدد 'سنتوجه بدعوتنا إلي المسئولين من قادة البلد وزعمائه ووزرائه وحكامه وشيوخه ونوابه وهيئاته وأحزابه وسندعوهم إلي منهاجنا.. فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلي الغاية آزرناهم وإن لجئوا إلي المواربة والروغان وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة فنحن حرب علي كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل علي نصرة الإسلام' ويكتب السيد يوسف: إن اندماج البنا في السياسة دفعه إلي تغليب سلوكيات وأخلاقيات رجل السياسة المحترف لا رجل الدين فاستخدم المناورة.. واللا مبدئية في التحالفات والتجسس والتسلل إلي الأحزاب الأخري والهيئات للتعرف علي أخبارها ونواياها وتخريبها من الداخل.. كما أكد البعض ومنهم قادة الإخوان: سعي البنا لطلب المعونات المالية بطريقة لا تخلو من الابتزاز من أمريكا وفرنسا وغيرهما.. ومن بعض الأحزاب مقابل التحالف معها.. أما د.رفعت السعيد فيؤكد أنه حتي في المبادئ الجوهرية كان الإخوان يتلاعبون تلاعب السياسيين غير المبدئيين.. فبعد أن يوجه البنا نقدًا شديدًا للدستور يعود ويتراجع عندما يبدي القصر الملكي العين الحمراء.. ويؤكد أن ما كان لجماعة الإخوان أن تنكر الاحترام الواجب للدستور باعتباره نظام الحكم المقرر في مصر.. ولا أن تحاول الطعن فيه.. ما كان لها أن تفعل ذلك وهي جماعة مؤمنة مخلصة تعلم أن إهاجة العامة ثورة.. وأن الثورة فتنة.. وأن الفتنة في النار.. ويؤكد د.رفعت أن لعبة السياسة عند الشيخ استمرت علي هذا المنوال قول ونقيضه في آن واحد.. وإن كان الخط الثابت هو المناورة بين، الجميع والتلاعب بالجميع.. غير أن الشيخ قد أدرك- وإن متأخرًا- أن الجميع كانوا يتلاعبون به.. ثم إن لعبة السياسة عند الشيخ بلا مبادئ كما يؤكد الباحث.. ويكتفي بإشارات.. منها قبول العون المادي من شركة قناة السويس الاستعمارية.. وقبول العون المادي والمعنوي من الطاغية إسماعيل صدقي، والحرص علي صداقة علي ماهر داهية القصر الملكي والموصوم بعلاقات مريبة خارجية، سعي البنا لعقد مؤتمر الجماعة الرابع خصيصًا للاحتفال باعتلاء 'جلالة الملك العرش'.. وقيام جوالة الإخوان بأعباء التنظيم خلال الاحتفالات بهذه المناسبة.. وهل ينسي الناس عندما اختلف النحاس باشا مع الملك وخرجت المظاهرات تهتف: 'الشعب مع النحاس'.. فخرجت مظاهرات الإخوان إلي قصر عابدين تهتف: 'الله مع الملك'؟! وهل ينسي الناس خروج الإخوان يهتفون للطاغية إسماعيل صدقي: 'واذكر في الكتاب إسماعيل'.. وكيف كانوا القوة الوحيدة التي أيدت معاهدة صدقي- بيفن.. ولعل الشيخ حسن البنا كان الوحيد بين المشتغلين بالعمل العام في مصر الذي ينهي خطبه عادة بالتعلق بالملك، والأمل فيه، والدعاء له.. و.. 'إن لنا في جلالة الملك المسلم أيده الله أملاً محققًا'.