نزاهته كانت لغزًا محيرًا اعترف بها معارضوه وكارهوه عاش حياة لاتعرف البذخ..ومات ولايملك الاجنيهات معدودة لم يكن ناصر قديسا ولا إلها، ولكنه كان انسانا تربى على فطرة الاخلاق، التى ميزت شخصيته ومزجت بين رقة المشاعر والحزم، كان ناصر مثله مثل الآلاف من ابناء الوطن الانقياء الذين يعطون من جهدهم وتفكيرهم دون من أو تفاخر، فقط لانهم أوكلت لهم مسئوليات تجاه الوطن. ناصر بطبعه الثورى المؤمن دوما بالعدالة الاجتماعية والمنحاز دائما للبسطاء، كانت صفاته الشخصية تطغى على كل تصرفاته، فكانت تحركاته منذ أن كان شابا صغيرا فى المرحلة الثانوية، تدفعه للانخراط فى العمل السياسى، وكانت الرغبة فى التغيير والقضاء على كل مظاهر الظلم هى ماحركته ورفاقه من الضباط الاحرار للقيام بثورة 23يوليو عام 1952. عاش ناصر حياته متقشفا بل وزاهدا فى مغريات المنصب، فلم يكن يأكل من الطعام سوى مايأكله غالبية المصريين من الخضار المطبوخ مع الأرز واللحم والاسماك، ولم نسمع فى يوم أنه استورد طعاما من الخارج كما ادعى مؤخرا وزير الخارجية الأسبق عمرو موسى فى مذكراته، فنزاهة عبد الناصر كانت لغزا محيرا اعترف به معارضوه وحتى كارهوه. حياة البساطة كانت الملمح الرئيسى لحياة عبد الناصر، وكانت حياته أقرب لحياة الملايين من أبناء الشعب متوسطى الحال، فى الطعام وفى الملبس والسكن وتعليم الابناء، والحكايات التى تداولها معاونوه ورفقاؤه ومن عاش فى عهده، كلها تشير إلى بساطة الرجل واستقامة أخلاقه، كان يملك وهو رئيس جمهورية ان يأكل أشهى أنواع الطعام، ولكنه كان يحب أنواع الاكل المعتادة فى معظم البيوت المصرية، وعندما لفت هذا الأمر نظر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وكان مرافقا له، فى معظم الاوقات..قال له: «ياريس هناك انواع اخرى من الطعام غير الأرز والخضروات، فرد عليه بأنه لايأكل الا مايعرفه». ويحكى محمود فهيم «سكرتير عبد الناصر» الشخصى قائلا: «فوجئت ذات يوم بالسيدة حرم الرئيس تطلب منى أن اشترى نصف كيلو من سمك البربون لغداء الرئيس وحده, الذى كان يفضل هذا النوع من الأسماك, فسألتها لماذا نصف كيلو فقط, فأخبرتنى السيدة تحية بأن الأولاد عندهم برد ومنعهم الطبيب من أكل السمك, فشعرت بالحرج البالغ وأنا أطلب من بائع السمك نصف كيلو فقط,خاصة ان البائع يعرف أننى أعمل فى بيت الرئيس.. وحين سمعنى البائع أطلب نصف كيلو فقط قال مازحا : هو الرئيس عنده ضيوف كتير النهار ده ولا إيه..؟» كان التزام جمال عبد الناصر بالبساطة يتمثل فى أسلوب معيشته الواضح، فمثلا أكلته المفضلة كانت قطعة من الجبن الأبيض والخيار والطماطم وفى بعض الأحيان بيضة مسلوقة، أما غداؤه فلم يتعد الأرز والخضار وقطعة اللحم أو قطعة السمك مما كان يشكل بعض العبء على من حوله، و كان يتعمد تناول طعامه مع زوجته والأسرة حوالى الثالثة من بعد الظهر يوميا، لمعرفة أحوال الأبناء فى الدراسة ومشاكلهم وطلباتهم. نزاهة عبد الناصر عبر عنها، «يوجين جوستين» رجل المخابرات المركزية الأمريكية :فقال «مشكلتنا مع ناصر أنه بلا رذيلة مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمر، ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه، نحن نكرهه ككل، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا، لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد». مشوار البساطة يزخر بحكايات كثيرة، حيث تحكى ابنته الكبرى الدكتورة هدى عبد الناصر فتقول كان أبى شديد الحرص على تربيتنا كسائر أبناء الشعب، فأدخلنا المدارس الحكومية العامة، ودرست فى مدرسة دار السلام الابتدائية، ثم سراى القبة الاعدادية، ثم القومية الثانوية بالعجوزة ولاتزال صورنا داخل تلك المدارس حتى الان. لم يكن ناصر يهوى حياة القصور ولذلك، تقول هدى اننا فى البداية عند التجهيز لمنزل منشية البكرى اضطررنا للسكن داخل قصر الطاهرة، الامر الذى سبب له ازعاجا كبيرا، كل واحد منا له غرفة كبيرة، مماجعلنا نشعر بالفرقة، فافتقدنا بيتنا فى منشية البكرى الذى كان يحتوينا، ورغم انه ليس كبيرا، الا انه كان مقسما فكان الدور الاول للزائرين، كان الدور العلوى خاصًا بنا، به غرفة للمعيشة واخرى للطعام، وكنانجتمع امام تليفزيون واحد، ولذلك طلب ابى عودتنا إلى منزلنا الذى يجمعنا فيه الرباط الاسري. وفى ذلك يقول «سامى شرف» مدير مكتب الرئيس عبد الناصر: اقتضت الظروف أن ينتقل الرئيس جمال عبد الناصر للإقامة فى قصر الطاهرة أحد القصور الملكية ولكنه لم يلبث بعد يومين ان عاد إلى منشية البكرى وقال لنا : « انا ما اقدرش أقعد فى مكان كله تحف وأشياء ثمينة . . حاعمل إيه لو حد من الأولاد كسر فازة أو أتلف سجادة أو شيئًا من هذا القبيل ؟ « . وعندما اصيب بآلام فى رجليه طلب الأطباء ضرورة انشاء حمام سباحة وعندما علم بأن مقايسة انشاء الحمام ستتكلف خمسة آلاف جنيه رفض إنشاءه رفضا باتا!! عن منزل الرئيس يقول «جان لا كوتير» فى كتابه «ناصر»: «إن منزل الرئيس ناصر فى منشية البكرى ظل إلى النهاية يعتبر منزلا عاديا لا تميزه أى مظاهر للفخامة التى كانت تتسم بها الكثير من المنازل الأخرى بمصر الجديدة والتى كان يعيش بها بعض المواطنين». أما القصة الأكثر غرابة فهى قصة «عم محمد» الذى كان يعمل بمنزل الرئيس، فذات يوم استوقف رجال الحرس بمنزله عم محمد الذى كان مكلفا بالخدمة وقضاء الحاجيات المنزلية بالخارج, وكان يحمل فى يده لفة من أوراق الجرايد رفض أن يكشف عن محتواها لرجال الحرس كما كانت تقضى التعليمات بذلك, وأمام إصرار الرجل على الرفض قام قائد الحرس بإبلاغ الرئيس الذى نزل إلى غرفة الحرس بالبيجامة والروب ليستطلع الأمر, فأخذ عم محمد جانبا وسأله عن فحوى اللفة التى فى يده وسبب رفضه الكشف عنها, فلما أبلغه عم محمد عاد الرئيس للحراس من الجنود والضباط ليبلغهم بأن اللفة بها قميص للرئيس اهترأت ياقته فطلب من الرجل أن يذهب به إلى جنيدى ترزيه الخاص ليجدد له الياقة, وقد رفض عم محمد أن يكشف سرا للرئيس الذى يجدد ياقات قمصانه بدلا من أن يشترى قميصا جديدا. تقول تحية عبد الناصر إنه لم يكن يحب البذخ والترف ولا يرى ضرورة لان تصاحبه هى فى سفره باعتبار ذلك «رفاهية لا يرضى بها... كان الرئيس لا يقبل هدية الا من رئيس دولة ويفضل أن تكون رمزية» وأنه تلقى من رؤساء وملوك سيارات وطائرة وغيرها وسلمها للدولة ولم يترك بعد رحيله الا العربة الاوستن السوداء التى اشتراها عام 1949. وتضيف أنه عند زواج ابنتهما هدى قدمت زميلة لها وهى ابنة سفير ساعة مرصعة فلم يقبلها عبد الناصر وحث هدى على أن تكتب لزميلتها خطابا رقيقا تعتذر فيه عن عدم قبول الهدية. لم يكن ناصر يملك دولابا ممتلئا بالملابس، وعن نفسه يقول: «لقد جرت سياستى دائما على أن أشترى بذلة جديدة يفصلها لى ترزى بالقاهرة كل عام ولكننى أغفلت عام 1955 فلم أشتر فيه شيئا. وعن الاستقامة يحكى سامى شرف، فيقول نقطة الضعف عندعبد الناصر، هى حبه لاقتناء أربطة العنق . . ورباط العنق المثالى بالنسبة له يجب أن يكون به خطوط واسعة ذات ألوان مختلفة ويجب أن يكون اتجاه الخطوط فى المرآة من الشمال إلى اليمين . . وقد جاءته هدايا تتراوح ما بين طائرات يبلغ ثمنها نصف مليون جنيه وكتب موقعة بأسماء مؤلفيها وقد وزعها كلها أو سلمها للدولة لكنه يحتفظ بالهدية إذا كانت رباط عنق مخططا فى اتجاه اليمين . وهو لا يملك ملابس للسهرة لأنه يشعر أن مثل هذه الملابس لا تتناسب مع مصر الحديثة كان أول انطباع لصورة عبد الناصر هو المظهر البسيط . . ملبس عادى من بدلة كلاسيكية وكرافتة ذات تخطيط مائل من اليسار لليمين والحذاء الأسود، هذا إذا كان فى مناسبة رسمية، أما إذا كان فى المنزل أو فى أوقات غير رسمية فإن القميص والبنطلون والحذاء الخفيف هو اللبس الغالب .. لم يكن يحب أن يحابى أحدا أهل قريته أو احدا من اهله، ففى عام 1956 أنشئت الوحدة المجمعة فى قرية بنى مر محافظة أسيوط فى صعيد مصر و مسقط رأس جمال عبد الناصر، واقترح المسئولون عن الحكم المحلى إنشاء قرية نموذجية عند مدخل القرية تضم مائة وثمانى «فيلات» وتتوسطها فيلا على أحدث طراز كاستراحة لرئيس الجمهورية وابن القرية . ورفض عبدالناصر هذا الاقتراح، قائلا : «لو لم أكن رئيسا للجمهورية ما كان هذا ليحدث». كانت قرينته السيدة تحية نموذجا للسيدة المصرية التى لاتقحم نفسها على عمل زوجها، حيث ظلت عقيلة الرئيس عبد الناصر تحتل مكانها التقليدى والبروتوكولى فى المجتمع المصرى، فهى دائما إلى جانبه فى المناسبات الرسمية، ولم يكن يشار إليها إلا بإسم حرم الرئيس . وكان ناصر يتمسك بطباعه وأصوله الصعيدية، ففى أول زيارة للرئيس جمال عبد الناصر لليونان وصحبته فيها السيدة قرينته، وفى حفل الاستقبال كانت المراسم تقتضى فى مثل هذه الرسميات أن يدخل رئيس الدولة المضيفة إلى قاعة الاحتفال متأبطا ذراع حرم الرئيس الضيف احتفاء بها بينما يدخل الرئيس الضيف وقد تأبط ذراع زوجة الرئيس المضيف، وكان الطاقم المصرى كله على يقين ان الرئيس جمال عبد الناصر سوف يرفض هذا التقليد أو البروتوكول الذى يتنافى تماما مع تقاليد البلد وطبعه الصعيدى. وفعلا رفض الرئيس جمال عبد الناصر حين عرضت عليه ترتيبات الاستقبال وما سيتم فيه رفضا قاطعا وقال: «إننى أرفض ذلك لنفسى كما أننى لا أستطيع أن اجرح مشاعر الشعب المصرى حين يرى بكره صورة حرم رئيس جمهوريته وقد تأبطت ذراع رجل آخر ». وكان أن قام عند الاقتراب من باب القاعة أن تقدم من الملك اليونانى ووضع يده فى يده وتقدما عبر الباب إلى القاعة فما كان من الملكة إلا أن تأبطت ذراع حرم الرئيس ودخلتا سويا للقاعة وانتهت الأزمة الصامتة والتى مرت بهدوء وبكرامة.».!! كان ناصر شديد الاعتزاز بكرامته وكرامة وطنه، ولذلك فعندما اخبروه ان «مصدرا امريكيا خاصا» على استعداد لتقديم مبلغ من المال ليكون تحت تصرفه، وطلب عبد الناصر استجلاء شخصية «فاعل الخير» هذا، فاتضح ان الذى عرض المبلغ جهاز المخابرات المركزية الامريكية، اقترح حسن التهامى الذى تسلم المبلغ من الضابط الامريكى أن يقام تمثال اشبه بأبى الهول، لكن ناصر أقترح إقامة مبنى على درجة كبيرة من الضخامة والقوة، فكان برج القاهرة، الذى يذكر دوما بفشل مخطط امريكا فى مصر. لقد نشأ جمال عبد الناصر بين شعب أغلبه من الفقراء، وشاءت الظروف أن يكون هو من بين هذه النسبة الغالبة.. كان يقول: «أنا جمال عبد الناصر أفخر بأن عائلتى لا تزال فى بنى مر مثلكم تعمل وتزرع وتقلع من أجل عزة هذا الوطن وحريته.. وأنا أقول هذا لأسجل أن جمال عبد الناصر نشأ من عائلة فقيرة، وأعاهدكم بأن جمال عبد الناصر سيستمر حتى يموت فقيرا فى هذا الوطن.. فى ذكرى وفاته السابعة والأربعين رحم الله ناصر بقدر ما أعطى وقدم لهذا الوطن..