مازالت الجيزة القديمة تسهر حتى الفجر فى رمضان ومازال المسحراتى بطبلته يجوب طرقاتها يسحر الناس «بالاسم» وما يزال يحفظ أسماء سكان كل حارة وكل زقاق ، ومازالت حواريها تزدان «بالتعاليق» الملونة، والفوانيس الورقية الضخمة ورغم أن أطفالها قد عرفوا الفوانيس الناطقة والراقصة لكنهم بفوانيسهم مايزالون يدورون فى حلقات يغنون أهازيج رمضان ، ويجرون على أصحاب المحال والبقالين يطلبون «العادة»... وينتظر الجيزاوية ما يزالون صوت مدفع الافطار الرابض أمام قسم الجيزة فى شارع البحر الأعظم... وما أن يؤذن الشيخ حسن من مئذنة مقام «سيدى أبو هريرة» حتى يفرش أهلنا فى حارة رابعة وشارع هيكل وشارع «عشرة»، الحصير أمام البيوت ليأكل معهم أى عابر سبيل طعام الافطار.. بعضهم يضع «الراديو» بجانبه أثناء الأكل ، وبعضهم يضع «جهازا للتليفزيون» يشاهد من خلاله برامج «ساعة الافطار» نفس الشيء يحدث فى سوق الأحد حيث ينتظر الناس الأذان من مئذنة جامع سيدى ذى النون المصرى وهو ما يحدث فى كل مكان من أحياء وقرى ونجوع المحروسة، ومازال المصريون جميعا يقسمون رمضان إلى «عشرة مرق» و«عشرة خلق» و«عشرة حلق» فهم يرون أن العشرة الأولى للعزومات والطعام ، والعشرة الثانية لملابس العيد أى «للخلق» أو حسب تعبير أهلنا فى الصعيد «الخلجات» والعشرة الأخيرة لصنع كعك العيد أى «الحلق» ورغم المعاناة الاقتصادية ، ورغم ارتفاع الأسعار يصر فقراء وبسطاء الجيزة والحمزاوى ، وباب الخلق والسيدة وطولون، والحلمية، وباب الشعرية ، وفقراء وبسطاء القرى والنجوع فى الدلتا والصعيد أقول رغم المعاناة، مازال هؤلاء البسطاء يصرون على الحفاظ على «طعم رمضان» المغلف بالسمو الروحى والاحتفاليات الدينية والشعبية ، رمضان الحقيقى الذى يسرى فى الشرايين وتكاد تميز رائحته الزكية من بين شهور العام.. هؤلاء البسطاء هم سدى ولحمة الشعب العريق المجاهد المكافح الذى مازال قابضا على «جمر الثقافة الشعبية» والموروث الروحى الذى يشكل الوجدان.. لأنه ينتمى الى حضارة عريقة، ولأن الإيمان الشفاف الأصيل يسكن قلوبهم.. ولأنهم يرفضون التطرف الذى خلعوه نهائيا فى 30 يونيو ولن يعود ستظل الثقافة الدينية الشعبية الاحتفالية باقية تشكل طعم رمضان الحقيقي، ومهما حاول المتأسلمون وأنصار ثقافة العولمة، فلسوف تنتصر إرداة الشعب العريق، وستظل ثقافتنا المستنيرة ثابتة وصامدة.. لأن الثقافة تحافظ عليها الشعوب ، ولا تتغير لا بقرار ولا بالحصار ، ولا بالضغوط، فالشعوب الأصيلة دائما هى الباقية.. وسيظل طعم رمضان المصرى باقيا الى يوم الدين.