كانت الطيور جميعا تطير من مكان الي مكان في موطنها الأصلي بحثا عن رزقها في العصر المطير وعندما بدأ عصر الجفاف بدأت تعرف الهجرة بحثا عن الماء والطعام تماما كما فعل الانسان الذي بدأ يعرف تدجين بعض الحيوانات والطيور في عصر الرعي, فلقد كانت تلجأ الي أكواخه المتحركة بحثا عن بقايا طعامه فقام الانسان بتدجينها وإدخالها الي حظيرته التي كانت تنتقل معه بحثا عن المرعي, ومع الوقت فقدت أنواع كثيرة من الطيورالقدرة علي الطيران لأنها استمرأت إطعام الانسان لها وكفت عن البحث عن رزقها بنفسها, و قنعت بما يقدمه لها سيدها من بقايا طعامه. وفي العصر الزراعي توسع الإنسان في تدجين الكثير من الحيوانات والطيور في مسكنه المستقر وصنع حظيرة ثابتة ملأها بالعديد من الطيور الداجنة التي ثقل وزنها من السمنة فلم تعد قادرة علي الطيران غير المجدي فهي آمنه بعيدا عن الجوارح يدافع عنها صاحبها ويقدم لها طعامها بانتظام فعاشت هانئة مستقرة في الحظيرة, ولم تعد عندها اي رغبة في الطيران وإن جربت ذلك من باب الفطرة كان الانسان يقصقص ريشها حتي لا تخرج بعيدا عن حظيرته فيلتهمها حيوان شرس أو طير جارح بل إنني أتذكر جيدا في أيام الطفولة ماكانت تفعله جدتي للدجاج الصغير فلقد كانت 'تنتف' ريش الدجاج الصغير الأرعن لتمنعه من الطيران خارج العشه حتي لا يختلط بطيور الجيران, أو يسقط من فوق سطح البيت علي الأرض ميتا. ومع ازدياد وزن الدجاج كان يفقد أي قدرة علي الطيران ويستقر في العشة يبيض ويفقس ويسمن حتي يذبح. ومنذ عصور ماقبل التاريخ كان الإنسان يخشي الجوارح ولا يستطيع استئناسها خاصة النسور والصقور المحلقة بين السحاب ولأنه كان يخشاها فلقد احترمها وقدسها بل اتخذ بعضها رمزا أو ايقونة ليتجنب شرها, ولقد عرفت كثير من الشعوب النسر والصقر كرمز من رموز القوة والمهابه وقدس المصريون كليهما عبر العصور وكان الصقر حورس بالتحديد هو حارس سماء مصر وحارس حكامها, ولقد اختار صلاح الدين الايوبي النسر رمزا له وهو الرمز الذي مازالت مصر تعتبره شعار الدولة حتي الآن. لقد احترم الإنسان عبر العصور النسر والصقر المستقلين عنه غير المعتمدين في طعامهما عليه وقدسهما اتقاء لضراوتهما, ولم يحترم أو يقدس الدجاج الذي يطعمه ويربيه ليذبحه هذا الدجاج الذي استمرأ الحياة الرغدة الهانئة في حظيرته ففقد مع الوقت قدرته علي الطيران. تذكرت ذلك كله فجأة الأسابيع الماضية وسألت نفسي : أيهما أفضل للإنسان الحر أن يكون نسرًا أو صقرًا محلقا بين السحاب بهيبة واحترام, أم يكون دجاجة بائسة تنتظر الطعام في الحظيرة فتفقد يوميا القدرة علي الطيران؟ فالمجد دائما للنسور والصقور المحلقة والذبح دائما للدجاج.