أكثر ما يؤلمني بعد كل حادث إرهابي إضافة إلي نزيف دماء شهداء القوات المسلحة أو الشرطة أمران: حالة الإحباط التي تسيطر علي البعض وفقدان الثقة في النفس والدولة.. والهجوم غير المبرر، علي أهالينا في سيناء واتهامهم اتهامات مفزعة وقاسية.. أعرف أن هذه الحوادث الإجرامية، صادمة.. وأن عدد الضحايا غير مسبوق منذ بدء الحرب علي الإرهاب.. وأعترف أن حالة من الإحباط سيطرت عليَّ لبعض الوقت. لكن علينا أن ندرك، أننا نخوض معركة استقلال وطني، منذ أن خرج المصريون بالملايين إلي الشوارع، يهتفون بسقوط حكم المرشد، ويكتبون نهاية الإخوان، ويدهسون تحت أحذيتهم المشروع الأمريكي الرامي لتفتيت المنطقة العربية. علينا أن نفهم جيدًا.. أننا كسبنا جولة في 30 يونية، لكن المعركة لم تنته بعد، والولايات المتحدةالأمريكية لن تفرِّط بسهولة، فيما خططت له عبر سنوات وصاغته أجهزة مخابراتها ومراكز أبحاثها. قد تكون الضريبة كبيرة.. لكن كما قال الزعيم الخالد جمال عبد الناصر: 'إن الذين يقاتلون.. يحق لهم أن يأملوا في النصر.. أما الذين لا يقاتلون فلا ينتظرون شيئًا سوي القتل'. الأخطر من ذلك.. هو ما يدور في أذهان البعض حول أهالي سيناء مع كل حادث إرهابي.. فقد صادف أن عرفت بالعملية الغادرة، وأنا وسط مجموعة من الأصدقاء، بينهم صديق من العريش. وفجأة صاح صديق آخر: 'الجيش لازم يساوي سيناء بالأرض.. فيه خيانة، مش ممكن تِحصَل حاجة زي كده من غير خيانة'. دقائق.. وتراجع زميلنا هذا، عما قاله.. ربما لأنه تذكّر وجود أحد أبناء العريش معنا.. وربما لأنه فكر جيدًا في الأمر.. وربما لأن صديقنا العريشي علق بحزن شديد مؤكدًا أن معظم الإرهابيين من خارج سيناء. المهم.. تجاوزنا ما قيل في الجلسة، بالحديث عن الإرهاب.. وكيف تحولت أرض الفيروز، بفعل الإهمال الحكومي المتراكم، والعام الذي قضاه الإخوان في الحكم، إلي بيئة جاذبة للتيارات الإرهابية. انتهت المشكلة.. لكن كما يقولون 'اللي في القلب.. في القلب'، فهذه الفكرة الشاذة.. مازالت راسخة عند البعض.. فقد تابعت بعض المناقشات حول الحادث علي مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، فوجدتها تدور في هذه الدائرة المقيتة. تخيلوا.. أبطال سيناء الذين قاوموا الاحتلال الصهيوني، وكتبوا بدمائهم أنصع صفحات تاريخنا، أصبحوا في ذهن البعض مجرد عملاء، أو تجار مخدرات!!. هذا الكلام للأسف الشديد يتردد في الوقت الذي تقف فيه سيناء صامدة، تقاوم وخلفها مصر كلها.. الإرهابيين والتكفيريين والمرتزقة والمجرمين. لقد كتبت في مناسبة سابقة عن سيناء وعن هذه المشكلة.. وقتها لم يكن الإرهاب الغادر بهذه البشاعة، ولم يكن التجريح في هذه البقعة الغالية بهذا الشكل. لذا أجدني مضطرًا لأن أذكّر بإحدي البطولات التي جرت علي أرض سيناء، علها تكون سببًا في أن يراجع البعض موقفه، ويعيد التفكير فيما يتردد من شائعات يروجها العدو الصهيوني في محاولة للثأر من أبطالنا الذين أذاقوه مرارة الهزيمة. بالضبط.. كما حاول تشويه صورة المناضل البورسعيدي 'أبوالعربي'، حتي أصبح في مخيلة الأجيال الجديدة، 'حلنجي' أو 'فهلوي' يُضرب به المثل في الكذب!!. ففي مثل هذه الأيام، وبالتحديد في أكتوبر عام 1968 استدعت قوات الاحتلال الصهيوني شيوخ وعواقل قبائل سيناء، وساومتهم علي إعلان الانفصال عن مصر، واستخدمت معهم الضغوط والتهديدات تارة والعروض والمغريات تارة أخري. وحدد الكيان الصهيوني يوم 31 أكتوبر لعقد مؤتمر دولي يعلن فيه عواقل القبائل الانفصال.. واختاروا 'الحسنة' بوسط سيناء لهذا الحدث الكبير.. ووعدوا الشيخ سالم الهرش كبير قبيلة البياضية، وصاحب الشعبية الكبيرة بين القبائل بتولي إمارة سيناء في حال إعلان انفصالها عن مصر والمطالبة بالتدخل الدولي.. وهددوه في حال رفضه بقتل أسرته بالكامل والتنكيل به. كان لدي الشيخ سالم الهرش 10 من الأولاد و8 من البنات، و4 زوجات.. جمعهم وصلي بهم صلاة مودع، ثم سلمهم إلي المخابرات المصرية التي هرَّبتهم إلي مدن القناة ومنها إلي مديرية التحرير. وفي اليوم الموعود وجهت دولة الكيان الصهيوني الدعوة لوكالات الأنباء العالمية ومراسلي التليفزيونات الغربية والصحف من كل أنحاء العالم لحضور مؤتمر صحفي يعلن فيه موشيه ديان عن مفاجأة مدوية.. فقد سايرهم الشيخ سالم الهرش ووعدهم بتنفيذ مطالبهم، بعد أن رتب الأمر مع المخابرات المصرية، وجري الاتفاق علي تدبير فضيحة إعلامية دولية لإسرائيل. توافد كبار القادة في جيش الاحتلال الصهيوني علي 'الحسنة' يرافقهم الصحفيون والإعلاميون من أجل اللحظة الحاسمة التي راحت تروج لها إسرائيل وتؤكد أنها ستغير خريطة الشرق الأوسط إلي الأبد، وستخلق واقعًا جديدًا في المنطقة. وفي الوقت الذي كانت تتحرك فيه المخابرات المصرية لقلب السحر علي الساحر، كانت الطائرات الصهيونية تنقل الطعام ومصوري وكالات الأنباء ومندوبي القنوات العالمية لحضور المؤتمر الذي حشدت له إسرائيل ويشارك فيه كبار قادتها وعلي رأسهم 'جولدا مائير' و'موشيه ديان'. وأخيرا بدأ المؤتمر وسط اهتمام إعلامي، وترقب للمفاجأة التي طنطنت بها إسرائيل طويلا، فتحدث شيوخ وعواقل القبائل عن سيناء وأهميتها وكنوزها وخيراتها، ثم فوضوا الشيخ سالم الهرش للتحدث باسمهم. وقف الرجل شامخًا شموخ الدهر.. ساد الصمت وانتظر الحضور كلمة شيخ مشايخ سيناء.. انتظر الصهاينة أن يعلن الشيخ سالم الهرش عن رغبة أهالي سيناء في الانفصال عن مصر وتدويل قضيته. وقف سالم الهرش يلقن العدو درسًا لن ينساه مخاطبًا قادة جيش الاحتلالالصهيوني: 'أشكركم علي عقد هذا المؤتمر، ثم تلا بعض آيات القرآن الكريم التي ذكرت سيناء، وقال: أما أرواحنا فهي لله، وإن باطن الأرض أولي بنا من ظاهرها لو قلنا إن سيناء غير مصرية.. سيناء أرض مصرية وستبقي مصرية ولن نرضي بديلا عن مصر، نحن مصريون ولن نقبل أن نكون غير مصريين.. وما أنتم إلا قوة احتلال ولابد لهذا الاحتلال أن ينتهي.. نرفض التدويل، وأمر سيناء سيظل في يد مصر.. سيناء مصرية مائة بالمائة ولا نملك فيها شبرًا واحدًا يمكننا التفريط فيه.. من يرد الحديث عن سيناء يتكلم مع زعيم مصر جمال عبد الناصر، سيناء بنت عبد الناصر.. سيناء بنت عبد الناصر'. فضجت القاعة بالهتاف: الله أكبر. حاول الحاكم العسكري الصهيوني في سيناء أن ينقذ الموقف فأمسك بالميكروفون وقال: 'غير الموافق علي رأي الشيخ سالم يرفع يده'، فعلت القاعة بالهتاف باسم مصر وترديد الله أكبر.. الله أكبر.. حتي انفضَّ المؤتمر وفشل المخطط الصهيوني، لتنتصر سيناء لمصر والعرب. انتصرت سيناء وستنتصر كما فعلتها من قبل وهزمت الهكسوس والتتار والمغول وجيوش أوربا الاستعمارية، لتبقي كعادتها خط الدفاع الأول عن مصر والدرة الغالية في جبين الوطن. يا سادة.. لا تظلموا سيناء.. ولا يدفعكم حزنكم علي ما جري.. أن تهيلوا التراب علي بقعة غالية، قوية كجبالها.. طالما وقفت في وجه الأعداء.. ولا تهتز ثقتكم لحظة واحدة بالقوات المسلحة. وتغلبوا علي مشاعر الإحباط كما تغلبت عليها، يوم حادث العريش بترديد نشيد الجيش الذي أبدعه الشاعر الكبير فاروق جويدة ومازلت أحفظه، منذ أن كنت جنديًا بالقوات المسلحة: رسمنا علي القلب وجه الوطن نخيلا ونيلا وشعبا أصيلا وصناك يا مصر طول الزمن ليبقي شبابك جيلا فجيلا علي كل أرض تركنا علامة قلاعا من النور تحمي الكرامة عروبتنا تفتديك القلوب ويحميك بالدم جيش الكنانة وتنساب يا نيل حرا طليقا لتحكي ضفافك معني النضال وتبقي مدي الدهر حصنا عريقا بصدق القلوب وعزم الرجال يد لله يا مصر ترعي سماك وفي ساحة الحق يعلو نداك وما دام جيشك يحمي حماك ستمضي إلي النصر دوما خطاك سلام عليك إذا ما دعانا رسول الجهاد ليوم الفداء وسالت مع النيل يوما دمانا لنبني لمصر العلا والرخاء