ونحن نحتفل بالذكري الثانية والستين لثورة 23 يوليو المجيدة التي تحل بعد غد، نتذكر سنوات من حكاية إرادة وعزيمة شعب وزعامة وجسارة قائد خطي ببلاده خطوات في طريق التخلص من التبعية والاستعباد. جمال عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار سطَّروا حروفًا من تاريخ هذا الوطن، بعدما حملوا أرواحهم علي أكفهم وهبُّوا علي قلب رجل واحد للتخلص من النظام الملكي الذي كانت السمة الأساسية التي تحكمه هي استعباد عامة الشعب في اقطاعيات الباشاوات دون أي حقوق أو حتي الحد الأدني من الحياة الآدمية الكريمة، ناهيك عن التبعية السياسية والاقتصادية التي أغرقت مصر في مشاكل لاحصر لها. إرادة ناصر ورفاقه غيَّرت مجري التاريخ، وأعادت للمصري آدميته وكرامته الإنسانية، ، وكانت أهداف ثورة يوليو الستة تتمثل في ثلاثة قضاء وثلاثة إقامة وكانت هي كلمة السر في الثورة، حيث سعي ضباطها الأحرار لتحقيقها بعد اسقاط الملك، فكان القضاء واجبًا علي الاقطاع والاستعمار وسيطرة رأس المال علي الحكم، كانت الإقامة بالطبع واجبة لبناء الحياة الديمقراطية السليمة والجيش الوطني القوي والعدالة الاجتماعية. كان بيان الثورة الذي ألقاه محمد أنور السادات عبر الإذاعة المصرية هو ما لخَّص أهداف الثورة وأسباب قيامها وجاء فيه... اجتازت مصرُ فترةً عصيبةً في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير علي الجيش، وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين. وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة علي الجيش وتولي أمره إما جاهل أو خائن أو فاسد حتي تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلي ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولي أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم، ولا بد أن مصر كلها ستتلقي هذا الخبر بالابتهاج والترحيب. أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين، فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيُطَلق سراحهم في الوقت المناسب. وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح المواطن في ظل الدستور مجردًا من أي غاية، وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف، لأن هذا ليس في صالح مصر وأن أي عمل من هذا القبيل سيُقابَل بشدة لم يسبق لها مثيل، وسيلقي فاعله جزاء الخائن في الحال، وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاونًا مع البوليس. وإني أطمئن إخواننا الأجانب علي مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسئولًا عنهم. لقد انحازت الثورة للفقراء من أبناء الشعب وحاولت تخليصهم من براثن العبودية والاستغلال، فكانت قوانين الإصلاح الزراعي هي أول القوانين التي أكدت التوجه الاجتماعي للثورة وحسها الشعبي، وصدر قانون تحديد الملكية في 9 سبتمبر عام 1952 وتم نزع ملكية الإقطاعيات وتحديدها بمائة فدان بعد أن كانت آلاف الأفدنة، وكان عدد محدود من الأسر يملكون 90% من الأراضي الزراعية، ثم توزيع عقود الملكية علي الفلاحين البسطاء وتم منحهم من ثلاثة إلي خمسة أفدنة ليزرعوها ويعيشوا من ريعها حياة كريمة، وبالتالي تم توزيع الثروة الزراعية علي مئات الآلاف من الأسر، وكان ذلك ضربة قاسية للإقطاع والاستغلال. وكانت مجانية التعليم العام والجامعي التي فرضتها ثورة يوليو هي المحرك الرئيس للحراك الاجتماعي في المجتمع المصري الذي كان يحكمه منطق السادة والعبيد قبل الثورة، فاستطاع أبناء البسطاء ان ينخرطوا في الصفوف الدراسية في المدارس والجامعات حتي أصبح منهم أطباء ومهندسون ومعلمون وأساتذة جامعات وفي شتي الوظائف الحكومية، فقد أنشأت عشر جامعات في المحافظات المختلفة بدلًا من ثلاث فقط، وتمت أيضًا مضاعفة ميزانية التعليم العالي، إلي جانب إنشاء مراكز البحث العلمي والمستشفيات التعليمية، كما أتاحت فكرة تكافؤ الفرص لأبناء الشعب الالتحاق بالوظائف العليا مثل السلك الدبلوماسي والقضاء دون وساطة أو محسوبية. إضافة إلي أن قرارات التأميم بما فيها قرار تأميم قناة السويس وتأميم التجارة والصناعة التي كان يحتكرها الاجانب، كان لها بالغ الأثر في النهوض بالاقتصاد المصري، وأنهت السيطرة علي القرار المصري، وحققت الاستقلال الوطني، ونقلت مصر من دولة تعاني ركودًا اقتصاديًا إلي دولة نامية. وعلي جانب آخر فقد شيَّدت القلاع الصناعية الكبري التي أشرف عليها أبو الصناعة المصرية المهندس عزيز صدقي، فتم إنشاء أكثر من الف مصنع، وصدر قانون يلزم الدولة بتعيين الخريجين من الجامعات بمصانع القطاع العام والمؤسسات الحكومية، وبالتالي تم القضاء علي البطالة، وتم وضع حد أدني للأجور وألزمت الدولة أصحاب المصانع بتحرير عقود عمل للعمال، وألغت الفصل التعسفي، وتغيرت التركيبة الاجتماعية في المجتمع المصري وتشكلت فئات جديدة من فلاحي الإصلاح الزراعي وعمال القطاع العام والمتعلمين من أبناء الفلاحين. كان إذن ملف العدالة الاجتماعية من الملفات الاساسية التي قدمت فيها ثورة يوليو إنجازًا كبيرًا وكانت أولي إرهاصاته بعد شهر ونصف تقريبًا من قيام الثورة متمثلةً في قوانين الاصلاح الزراعي، وبعدها تم التوسع في مجانية التعليم والتأمين الصحي والمستشفيات الحكومية ومد خدمات الكهرباء لأماكن لم تصل إليها من قبل. كان جمال عبد الناصر صاحب إرادة حقيقية ومشروع انحاز للفقراء من أبناء الشعب، وكان لشخصية ناصر المحبة للوطن أثر كبير في النهوض به علي كافة المستويات، لقد كان طموحًا وشجاعًا في آن واحد، الأمر الذي جعله يتخذ قرارات مهمة وصعبة يتحدي بها كل الظروف، ولكنه في النهاية كان يطمح لخدمة الوطن ومصلحة المواطن بعيدًا عن أي اعتبار آخر، كان بإمكانه أن يفرض ضرائب تصاعدية علي كبار ملاك الأراضي بدلًا من تحديد الملكية كما كان يقترح البعض، ولكنه انحاز لكرامة المواطن، فلم يكن الأمر يعني بالنسبة له جمع الضرائب ولكن مبدأ العدالة الاجتماعية كان هو الأساس والهدف. لقد اتخذ ناصر قرار تأميم شركة قناة السويس، وعلي الرغم من عظم تبعاته والعدوان الثلاثي علي مصر وما خلَّفه من دمار فإن أن السيادة المصرية علي أكبر منشآتها البحرية قد عادت وضمنت دخلًا قوميًا أساسيًا للبلاد، بالإضافة إلي فرص عمل لعدد لا يُستهان به. كما أن قرار بناء السد العالي بالرغم من رفض البنك الدولي تمويله كان هو الآخر انحيازًا للسيادة الوطنية، ويعتبر بناء السد بمثابة الملحمة التي خلَّدت اسم ناصر في التاريخ، وكان لها الأثر العظيم في حماية البلاد من مياه الفيضان، وخلقت فرص عمل لأبناء النوبة وأسوان، بالإضافة إلي توليد الكهرباء. يوليو عبد الناصر هي بداية حكاية الشعب الذي تنفس الاستقلال وتخلص من التبعية، وسار تحت لواء قائد عظيم خطي اولي خطوات هذا الشعب نحو الكرامة الانسانية، فناصر ابن الجيش المصري وضع روحه ورفاقه علي أكفهم في سبيل استنهاض الوطن من غفوته، ولذلك فقد خلَّده الشعب علي مر السنين الماضية. وما أشبه الليلة بالبارحة.. فقد انحاز الجيش أيضًا للشعب في الإطاحة بنظام مبارك ثم الانحياز مرة أخري للتخلص من حكم الجماعة، وتولي الحكم واحد من أبناء الجيش والشعب، وهو ما يبرهن علي أن الجيش بأبنائه الذين هم في الاساس أبناء الشعب هو الملاذ الحقيقي للمصريين وقت الشدائد.. كل عام ومصر يوليو ويناير ويونية بخير.