تعرض الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لجملة من الافتراءات والإدعاءات لم يشهد التاريخ أن مرَّت مثلها بسيرة رجل بعد مماته.. ناصر الثائر الذي غيَّر مجري التاريخ وحوَّل بوصلة الزمان والمكان نحو مصر، ناصر المحب لوطنه المدافع عنه ببسالة، الغيور علي شعبه المنحاز له علي طول الطريق، لم يسلم من حملات الزيف والكذب وظلت الحملات المعادية لشخصه تنال منه طيلة كل تلك السنوات التي مرت بعد أن رحل عن عالمنا في 28 سبتمبر1970. ولأن الزعيم حارب كثيرون كانوا ينهشون في جسد الوطن، فإن أعداءه لم يكونوا ليألو جهدًا في انتهاز الفرصة تلو الأخري للهجوم عليه، ناصر الذي حارب الإقطاع والفساد وسيطرة رأس المال وأنحاز للفقراء، وناصر الذي خاض معارك ضد تجار الدين، وناصر الذي حارب المستعمر ومضي بوطنه نحو التقدم والاستقلال، هو نفسه الزعيم الذي يتأكد لمعارضيه قبل مؤيديه يومًا بعد يوم صحة مواقفه ودقة قراراته في التعامل مع قضايا الداخل والخارج. اليوم وفي ذكري رحيله نجد سيرته ساطعة في سماء الوجدان الشعبي، الكل يتذكر مواقفه الشجاعة وقراراته الجريئة ولسان حال الجميع يقول: ما أحوج الزمن لزعيم مثله يقود قاطرة المجتمع يتفهم احتياجات الشعب ويقدِّر مشاعره، في 30 يونية عندما خرج الملايين ثائرين علي حكم جماعة الإخوان كانت الشعارات تردد والحناجر تصدح 'عبد الناصر قالها زمان الإخوان مالهومش أمان'، وفي 3 يوليو عندما أعلن الفريق أول عبد الفتاح السيسي خارطة الطريق للمستقبل السياسي بعد فشل جماعة الإخوان في إدارة البلاد خرجت الجماهير للاحتفال في ميادين عاصمة ومحافظات الجمهورية وكانت صورة الزعيم جمال عبد الناصر الأكثر حضورا جنبا إلي جنب مع صور الفريق السيسي. لقد رأي الناس في الفريق السيسي نموذجًا لما يجب أن يكون عليه القائد الذي ينجو بسفينة الوطن من الغرق، فبعد أن شعروا باليأس من الخلاص من جماعة الإخوان الذين فشلوا فشلا ذريعا في إدارة أمور البلاد، وجدوا ضالتهم في وزير الدفاع الذي انحاز للقطاع العريض من الشعب الذي طالب بإزاحة الجماعة عن الحكم، وهنا كانت المقارنة بين الزعيم عبد الناصر والفريق السيسي، وكانت الصور التي تجمع بين كليهما محمولة علي الأعناق، وكان الحديث عن رجال المواقف والأزمات الحادة والقلوب الجسورة هو سيد الموقف. كان عبد الناصر وسيظل الزعيم الذي لبي آمال وطموحات شعبه، انحاز للبسطاء من أبناء الشعب وكان قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في العام الأول لثورة يوليو وتحديدا في 9 سبتمبر 1952هو ترجمة حقيقية لانحياز ناصر الحقيقي، فقبل الثورة كان ملايين الفلاحين يئنون تحت وطأة واستعباد الأقطاع لهم، وكان الباشاوات سادة الارض ومن عليها، أما الفلاحون فكانوا'أقنان' أو عبيدًا يعملون في ظروف أقرب إلي السخرة لا يملكون من إرادتهم شيئا، ففي العام 1952 كان هناك ما يقرب من ألفي إقطاعي يحتلون خُمس المساحة المزروعة في البلاد ويتحكمون في ثلاثة ملايين من الفلاحين الأُجراء، وكانت بعض العائلات تمتلك ما يزيد علي ثلاثين ألف فدان، بينما لا يجد كثير من الفلاحين قوت يومهم، ولأن الثورة قامت أساسًا من أجل القضاء علي الإقطاع وإقامة عدالة اجتماعية، كان الإصلاح الزراعي هو أول القوانين الثورية، والذي حوِّل الفلاح الأجير إلي صاحب أرض وسيد عليها. وفي إطار بحثه عن مزيد من النهضة للمجتمع أقام ناصر القلاع الصناعية الكبري مثل مجمع الحديد والصلب والكوك في حلوان ومجمع الألومنيوم في نجع جمادي إلي جانب الكثير من المصانع الأخري في المحافظات مصر المختلفة والتي استوعبت أعدادًا هائلة من العمال والموظفين والفنيين والمهندسين، وحصل العمال في ذلك الوقت علي حق تمثيلهم في مجالس إدارات مصانعهم من خلال ممثل اللجنة النقابية، وبذلك توافر الكثير من فرص العمل أمام خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة، وحدد قانون العمل عدد ساعات العمل اليومية بسبع ساعات ورفع الحد الأدني للأجور، وتم من اعتبارا من عام 1964تطبيق قانون التأمينات الاجتماعية الإجبارية. قام ناصر ضمن سلسلة معاركة الوطنية بتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، وأعلن ذلك أمام الجماهير المحتشدة في الإسكندرية وتحويل القناة إلي شركة مساهمة مصرية، وجاء توقيت القرار عقب سحب الولاياتالمتحدة عرضها بتمويل بناء السد العالي، وأكد عبد الناصر أن رسوم القناة ستُستخدم في بناء السد العالي، ووعد بتعويض حملة الأسهم في شركة القناة علي أساس سعر الاقفال في بورصة باريس يوم التأميم، وكان تأميم القناة أول عمل إيجابي عربي يهز ركنًا من أركان السيطرة الأجنبية في المنطقة. وعن حكاية السد العالي يُحكي الكثير عن شجاعة عبد الناصر في نفض الغبار عن الإرادة المصرية المستقلة والقضاء علي السيطرة الأجنبية علي الاقتصاد القومي، ففي 9 يناير عام 1960 فاجأ العالم بقراره التاريخي الذي أصدره في ذلك اليوم معلنًا بدء العمل في بناء السد العالي بأسوان الذي أنشئ بقرض من الاتحاد السوفيتي، بعد أن سحب البنك الدولي عرض تمويل السد في 19 يونية عام 1956عقب إعلان كل من بريطانيا والولاياتالمتحدة تخليهما عن المساهمة في تمويل السد. كان عبد الناصر يتلقي صباح كل يوم تقارير العمل في بناء السد وكأنها تقارير عن أحوال جبهة عسكرية، وعلي الرغم من كل الحروب النفسية التي واكبت بناء السد من تشكيك في الخبراء السوفيت وشائعات الصحافة الغربية التي تحدثت عن أن بناء السد سوف يُلحق الضرر بالاقتصاد المصري، إلا أن البناء اكتمل وبرهن علي إرادة قائد وعزيمة شعب، وها هو الآن يقف شامخًا، وكأنه شاهد علي عصر الشموخ والقوة والكرامة والعزة، مهما حاول المزايدون التقليل من فوائده. أثبتت تجربة السد العالي أن الرأسمالية تسعي من أجل مصالحها الضيقة، فقد عزفت عن المساهمة في التنمية، وقام أصحاب المصانع الكبيرة بتهريب أموالهم إلي الخارج في الوقت الذي كرست فيه البلاد جهودها من أجل بناء السد العالي، ولذلك فقد وضعت الحكومة وبمبادرة من عبد الناصر برنامجًا للتنمية الاقتصادية لمدة عشر سنوات تبدأ من عام 1960، وفي يوليو عام 1961 صدر ما سُمي بقرارات يوليو الاشتراكية التي آلت وفقا لها إلي الدولة ملكية البنوك الخاصة والمؤسسات الصناعية الكبري وشركات التأمين. ما أشبه الليلة بالبارحة وكأن ما حدث من أزمة عبد الناصر وجماعة الإخوان المسلمون، هو صورة شديدة الشبه بما يجري الآن، ففي الوقت الذي تحارب فيه الدولة تلك الجماعة التي أستحلت القتل والحرق والتدمير رغبة في الإبقاء علي مصالحها، تدِّعي هذه الجماعة أنها هي المجني عليها، وأن كل مايقال عن جرائمهم ما هو إلا محض افتراء، هكذا هم دومًا وأبدا، وهذا هو منهجهم في التعامل مع سلطة الدولة علي مر التاريخ، فقد ظل الإخوان يتباكون علي ما فعله معهم عبد الناصر وتقمصوا دور الضحية، إلي أن شاءت الظروف أن وصلوا إلي سلطة الحكم في مصر في 30 يونية 2012، وبمجرد تولي الدكتور محمد مرسي مقعد الرئاسة وفي الخطاب الأول الذي ألقاه في ميدان التحرير، صب جام غضبه علي الفترة الناصرية عندما قال 'الستينات وما أدراك ما الستينات' وهو ماقوبل بهجوم شديد من كل القوي السياسية والمثقفين والإعلاميين. كانت تجربة عبد الناصر ومازالت هي الامثل في التعامل مع جماعة الإخوان، فقد قام بحل الجماعة وحاكم بعضًا من أعضائها، بعدما طمحوا إلي الاستيلاء علي السلطة والقضاء علي النظام الجديد الذي تصوروا أنه مازال هشًا، وأن جهازهم السري داخل القوات المسلحة والشرطة وخارجها يمكِّنهم من تحقيق هذا الهدف، فأعدوا خطة الاغتيالات ومنها ما دبر لعبد الناصر في المنشية، وجهزوا الجيش السري ليتولي هذه المهمة. يقول جمال عبد الناصر في ردِّه علي خالد محمد خالد في المؤتمر القومي عام 1961 'نحن لم نظلم، حاكمنا الإخوان المسلمين، هل حاكمناهم افتراء، أم لأنه كان يوجد جيش مسلح ليستخدم في الانقضاض علي هذا الشعب، ألم يحدث هذا في 1954؟'. لقد ادعي الإخوان أن محاولة أغتيال جمال عبد الناصر في الإسكندرية كانت تمثيلية، وهم الآن أيضًا يدعون أن حوادث قتل جنود التي تقع علي فترات متقاربة في الآونة الأخيرة هي تمثيلية يقوم بها الجيش والشرطة لكسب تعاطف الشعب، حتي إن حادث اغتيال وزير الداخلية كان كذلك من وجهة نظرهم، ناهيك عن كم الادعاءات والأباطيل التي يروجها إعلامهم عن أحداث الحرس الجمهوري وعن فض اعتصامي رابعة والنهضة، كما أنهم يتنصلون من كل الجرائم والتفجيرات وكأنهم أبرياء. يبدو أن هذه هي طبيعة جماعة الإخوان علي مر التاريخ حتي أن الكاتب الصحفي عبد الله إمام في كتابه 'عبد الناصر والإخوان' الصادر في عام 1986 قدم لنا وصفًا لحالة الإنكار التي يتقمصها الإخوان وكأنه يقدم صورة قلمية لما يحدث الان، فقال 'كان جمال عبد الناصر إرهابيًا وسفاحًا، وكان الإخوان المسلمون أبرياء ومسالمين، أحرق عبد الناصر القاهرة ثم عصف بكل معارضيه، افتري عليهم ووضعهم في السجون بعد تمثيلية أعدها، واختار بطلها ليطلق عليه الرصاص، الإخوان المسلمون مسالمون وأبرياء من الإرهاب وقراءة سريعة لصفحات التاريخ تؤكد أنهم لم ينسفوا أسرًا، ولم تمتد أيديهم بالرصاص ليستقر في صدر قاضٍ بريء حكم ضدهم، فهم ليسوا قتلة المستشار الخازندار أمام بيته في حلوان.. لم يكن الإخوان أبدًا يدافعون عن رأيهم بالرأي والحجة ولكنهم كانوا يحاولون باستمرار فرضه بالقنابل، بالعنف والاغتيال'. في ذكري رحيل ناصر نتذكر دومًا مدرسته في العمل السياسي التي تعاملت مع جماعة الإخوان بالطريقة التي أيقن حتي المتشككون في عصرنا الحالي أنها المثلي مع جماعة لا تؤمن إلا بالعنف، ونتذكر مدرسته في التعامل مع البعد الاجتماعي والانحياز للفقراء، وها نحن الآن نتلمس خطواته في قرارات مشابهة من حكومة الدكتور الببلاوي بإعفاء طلاب المدارس الحكومية من المصروفات، وإقرار الحد الأدني للأجور، وكلها قرارات يحتاجها البسطاء.. في ذكري رحيله نتذكر سيرة عطرة وتاريخًا مضيئًا دفع كثيرًا من المصريين إلي حمل صورته والتغني بمواقفه بعد مرور 43 عامًا علي رحيله.