توقفت كثيرًا عند مقولة توفيق الحكيم: 'لو كشطت جلد أي فلاح فقير ستجد ستة آلاف سنة من الحكمة'. لم تفارقني هذه الكلمات خلال السنوات الثلاث الماضية، كان كل يوم يمر يؤكد صدقها. تذكرتها، في 25 يناير، و30 يونية، وفي 26 يوليو 'التفويض الشعبي للجيش لمواجهة الإرهاب'، و14 و15 يناير 'الاستفتاء علي الدستور'. كنت أتذكرها في كل مرة يخرج فيها المصريون يزلزلون أركان الإمبراطورية الأمريكية في المنطقة العربية، ويدهسون تحت أقدامهم المشروع الأمريكي، ويوقفون عجلات تقسيم الوطن العربي إلي دويلات علي أسس عرقية ومذهبية. وهو المخطط الذي صاغه العقل الغربي، لترتيب المنطقة علي الهوي الصهيوني، وأوكل تنفيذه لجماعة الإخوان. تذكرتها، مع التقارب المصري الروسي، وعند توقيع اتفاقية تعاون مشترك بين القوات المسلحة الروسية والمصرية، وأثناء زيارة السيسي إلي موسكو. تذكرتها، وأنا أتابع تصدع نظام أردوغان في تركيا، وانحسار الضوء عن إدارة قطر، وتراجع أمريكا وأوربا في قضية 'ضرب سوريا'، وبعدها 'أزمة أوكرانيا'. لقد برهن الشعب المصري في مواقف عديدة خلال الشهور الماضية علي عظمته، وأثبت أن غضبه يغيِّر وجه الأرض، يعصف بمن يقف في طريق حريته أو يحاول أن ينال من دولته.. وأكد لمن في قلبه شك، كلمات توفيق الحكيم، ومن قبله مقولة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي كان يردد دائما: 'الشعب هو القائد والمعلم'. ورغم الضغوط الغربية المستمرة والعمليات الإرهابية التي حاولت أن تُمرر للعقل الجمعي المصري أن الحل في 'المصالحة مع الإخوان وعدم ترشح المشير السيسي'، ظل الشعب المصري متمسكا بموقفه الرافض للمصالحة، ومصرًا علي خوض المشير السيسي الانتخابات الرئاسية. وكلما قدم سياسي أو أرزقي ما مبادرة للمصالحة سخر منها المصريون وأمطروها بوابل من النكات والقفشات، وكلما تأخر إعلان السيسي عن الاستقالة، طالبه الناس بالتخلي عن موقعه كوزير للدفاع وخوض الانتخابات. أقول ذلك لأقول: حسنًا فعل المشير السيسي عندما راهن علي المصريين، وهي الكلمة التي طالما رددها في خطاباته وبياناته، وآخرها بيان الاستقالة وإعلان الترشح للانتخابات الرئاسية. حسنًا فعلها، عندما قرر خوض الانتخابات، ولم يستمع لبعض من يسمون أنفسهم بالنخب السياسية، وراحوا يحذرونه ويطالبونه بأن يبقي في منصبه وزيرًا للدفاع ليحتفظ بمكانته في قلوب المصريين!!، وينصحونه بالابتعاد عن الدخول في المعترك السياسي!!. حسنا فعل السيسي، عندما استجاب لإرادة الجماهير، وأعرض عن تلك النخب العليلة التي ساهمت من قبل في توحش نظام مبارك، وكادت تطيح بأهداف ثورة 25 يناير، وتركت الساحة للإخوان، وظلت كعادتها تراهن علي مصالحها الضيقة. قبل 60 عامًا راهن عبد الناصر علي الشعب المصري، فكانت مصر كما كانت، وكما نتمني أن تعود، صاحبة الكلمة العليا والمواقف الخالدة.. كانت مصر التي تصدت للعدوان الثلاثي، ودقت المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية الفرنسية، وبريطانيا العظمي 'التي لم تكن تغرب عنها الشمس'، فتحرر العالم الثالث بعد عقود طويلة من الخضوع للاحتلال والتبعية. ثم جاء السادات، وقال: 'إن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا'.. قالها وسار علي نهجها مبارك، ومن بعدهما مرسي وجماعته.. راهنوا علي الولاياتالمتحدةالأمريكية، فأصبحت مصر كما نراها الآن. اليوم نجد من يعي الأمر جيدًا.. تعلم من حقائق الماضي وعِبر التاريخ، ودروس الحاضر، فقد راهن السيسي علي الشعب المصري.. ولن يخذله المصريون، طالما ظل رهانه عليهم. وهو ما يفسر القلق الأمريكي الأوربي من تنامي شعبية السيسي بعد 30 يونية، وما قاموا به من ضغوط علي الخليج العربي، لإقناعه بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، فبوجوده رئيسا لمصر تتحقق المعادلة: 'حاكم يمتلك الإرادة السياسية، وشعب يلتف حول حاكمه'. كان كل يوم يمر يكشف عن هذه الحقيقة أو خوف الولاياتالمتحدة والغرب من ظهور عبد الناصر من جديد، أو بالأحري حاكم يستند إلي شعبه، وبانت الصورة أكثر وضوحًا مع حالة القلق التي انتابت دوائر صنع القرار الأمريكيةوالغربية مع الاستفتاء علي الدستور، ومروره بنسبة تجاوزت 98%. وقد كتبت هنا بعد نتيجة الاستفتاء علي الدستور تحت عنوان: 'السيسي مرشح الشعب والثورة'، وقلت: 'إدراك خطورة اللحظة الراهنة أو طبيعة الصراع الدائر حاليًا علي أرض مصر، وراء عناد الشعب المصري وتماسكه وتحديه في الدفاع عن أركان دولته، والالتفاف أو بالأحري 'التحويط' علي مؤسساتها الرسمية، وإصراره علي اجتياز مرحلة الدستور.. وربما كان ذلك أيضًا هو ما دفع المصريين للتمسك بالفريق عبد الفتاح السيسي، بوصفه من تصدي منذ البداية بمساعدة ملايين المصريين لمعركة الاستقلال الوطني.. فضلا عن امتلاكه الإرادة السياسية والقدرة علي الفعل وإدارة الصراع.. بل حقق نجاحات غير مسبوقة علي مستوي التخلص من التبعية لأمريكا'. وأكدت أن الاستفتاء: 'أصاب بعض الدوائر الغربيةوالأمريكية بالصدمة، فقد فهموا أن الاستفتاء لم يكن فقط علي 'مسودة الدستور' بل علي خوض 'معركة الاستقلال الوطني'، و'السيسي' في القلب منها.. وأدركوا أن وجود رئيس يحظي بهذه الشعبية الكبيرة يساعد في خروج مصر من كبوتها، ويُبعد سيناريو الفوضي والعنف ويُسهم في انطلاقها نحو مستقبل أفضل.. وفهمت القوي الاستعمارية ما غاب عن بعض النخب السياسية التي راحت تطالب السيسي بعدم الترشح'. وخلصت إلي أن: 'أزمة الغرب ليست مع الاستفتاء علي الدستور، ولكن ما يزعجهم هو ظهور قائد يحظي بشعبية هائلة ويمتلك إرادة قوية، ويعمل وفق مطالب الشعب'. المشكلة في تقديري من وقتها حتي الآن ليست في المؤامرات والمخططات الأمريكية فهي واضحة وضوح الشمس، ومعروفة واعتدنا عليها، لكن المشكلة مازالت في وجود بعض النخب السياسية التي تمارس هوايتها في التصادم مع إرادة الشعب المصري، والتوافق مع الرغبات والمساعي والأهداف الأمريكية.. وأنا هنا لا أقصد ترشح حمدين صباحي للرئاسة، بل أري خوضه الانتخابات خطوة مهمة علي طريق الديمقراطية. مصيبتنا في أيمن نور وأمثاله.. أو نخبتنا التي مازالت تمارس هوايتها في التجريح في جيش مصر العظيم، ويزعجها أنه أضاف إلي شرعيتي ثورة يوليو وحرب أكتوبر، شرعية ثورتي 25 يناير و30 يونية. لقد قالت شبكة 'صوت أمريكا': 'إن قرار ترشح المشير السيسي للرئاسة، يضع الولاياتالمتحدة في مأزق.. ويزعج الرئيس باراك أوباما وإدارته كثيرًا، خاصة أنهما يدعمان جماعة الإخوان التي نجح السيسي بتفويض من الشعب المصري في إسقاطها في 30 يونية الماضي'.. وهو ما عبَّر عنه الكثير من دوائر صنع القرار الغربية والعديد من الخبراء السياسيين والمحللين الغربيين. ولا أدري هل من طبائع الأمور أن ما يهدد المصالح الأمريكية ويزعج أوباما، يزعج أيمن نور ويهدد مصالح بعض النخب السياسية المصرية؟!!. صفعة سعودية!! جاءت زيارة أوباما الأخيرة للسعودية، لتؤكد من جديد أن 30 يونية لم تكن ثورة شعبية للإطاحة بنظام حكم فاشل أو استبدادي فقط، وإنما معركة استقلال وطني كما وصفتُها من قبل سيترتب عليها تشكيل المنطقة من جديد، واسترداد الوطن العربي من براثن التبعية لأمريكا. فيوم الجمعة زار أوباما السعودية، وأقل ما يمكن أن توصف به الزيارة، أنها صفعة جديدة للإدارة الأمريكية، بداية من الاستقبال الخشن كما وصفته صحيفة 'الشرق الأوسط' 'أمير الرياض هو من استقبل أوباما' مرورًا بتفاصيل الزيارة التي وصفتها الصحف بأنها بمثابة توبيخ سعودي لواشنطن. ليس هذا فقط، فقد كان من المنتظر أن يلتقي الرئيس الأمريكي بحاكم الإمارات وأمير الكويت وملك البحرين أثناء زيارة السعودية، لكنهم فوضوا العاهل السعودي في المقابلة، وهو ما يعني رفضهم للزيارة احتجاجا علي السياسات الأمريكية. نحن أمام معادلة سياسية جديدة في الوطن العربي فرضتها ثورة يونية وإرادة الخليج الصلبة للتخلص من الإرث القديم.. لم تعد الولاياتالمتحدة كما كانت من قبل الآمر الناهي، أو الحاكم بأمره.. وعلاقتنا بها أصبحت علاقة ندية، تحددها المصالح المشتركة.. ولا عزاء للمتأمركين.