موسكو تستقبل السيسي كبطل قومي عندما تصبح العلاقة بين بلدين مطلبا شعبيا وطريقا للنهوض والتقدم عندما تفتح موسكو صدرها لاستقبال المشير عبد الفتاح السيسي كبطل قومي.. وعندما يتحرك الشعبان المصري والروسي اليوم لاعادة زخم العلاقات بين البلدين إلي سابق عهدها في الخمسينيات والستينيات نتذكر جمال عبد الناصر.. أول زعيم عربي يسعي لبناء علاقات متكافئة مع قوة جبارة ك 'الاتحاد السوفيتي' بعد أن أجبرنا الاستعمار علي التخوف منه.. والتهرب من مجرد لقائه.. وعدم التعامل معه.. بل الدخول في تحالفات اقليمية ترعاها أمريكا ودول الغرب الاستعمارية للوقوف في وجه 'الأطماع' السوفيتية.. ومجابهة النفوذ البلشفي.. ومن المهانة أنهم كانوا يفرضون ذلك علي بلداننا وهم وحدهم من احتلها.. وأمعن في إذلالها.. واستنزاف مواردها.. والمتتبع للعلاقة بين البلدين يفاجأ بأنها علاقات قديمة بدأت قبل 230 عاما وبالتحديد عام 1784 كعلاقات قنصلية شكلية لا أهمية لها.. ولم تتحول إلي علاقات دبلوماسية إلا في عام 1943 حيث أصبحت لمصر سفارة في موسكو، وللاتحاد السوفيتي سفارة في القاهرة.. وقنصلية عامة في الأسكندرية.. في تلك الفترة الميتة من العلاقات القنصلية بين مصر وروسيا.. قامت ثورة 1917 التي أسست الاتحاد السوفيتي الذي غير وجه العالم.. وبعدها بعامين قامت ثورة 1919 في مصر.. ثورة شعبية عارمة.. جعلت الثورة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي يتطلعان إلي مصر حيث يمثل نجاح الثورة فيها نجاحا للمبادئ الاشتراكية الداعية إلي التحرر من الاستعمار، وبناء القوي الذاتية للشعوب المضطهدة والمقهورة اعتمادا علي مواردها المنهوبة، والتعاون مع الشعوب المحبة للسلام.. والعدل.. وعرضت الثورة السوفيتية استعدادها للمساعدة والتعاون غير المشروط والعلاقات المتكافئة التي تسعي لخير الشعبين.. ولكن قادة ثورة 1919 بتأثيرات الدول الاستعمارية ودعايتها أحجمت عن الاستجابة لتلك الدعوة، وتخوفت منها.. ورفضتها.. وعاونتها الرجعية المتعاونة مع الاستعمار بفتاواها الفاسدة.. حيث قال قائلهم: إن الاحتلال علي يد الانجليز أفضل من التحرر علي يد البلاشفة.. ومن ثم ظلت العلاقات الدبلوماسية هي الأخري مجمدة لتسع سنوات حتي قيام ثورة يوليو 1952.. في ذلك الوقت واجه جمال عبد الناصر وثورة يوليو أمريكا التي سعت للهيمنة علي المنطقة بعد انكماش بريطانيا عقب توقيع اتفاقية الجلاء التي أصبحت مصر بمقتضاها دولة حرة بعد احتلال دام لأكثر من 70 عاما.. وقد امتد ذلك السعي الأمريكي من خلال خطط ومشروعات حاولت فرضها بالقوة علي دول المنطقة وأساسا مصر من أول قيام الاحلاف وأشهرها حلف بغداد حتي مشروع ايزنهاور 'لملء الفراغ الذي خلفه رحيل قوات الاحتلال'.. وكان جمال عبد الناصر هو من تصدي لكل ذلك بصلابة.. ووقفت شعوب المنطقة من خلفه تطالب بالتحرر الوطني وتستعد لاستعادة حريتها بالقوة.. ولم يبق أمام أمريكا والدول الاستعمارية إلا العنف والضغط السياسي والعسكري.. وتحركت إسرائيل بالعدوان علي الحدود المصرية.. ولجأ عبد الناصر إلي الدول الموردة للسلاح كالمعتاد 'أمريكابريطانيا فرنسا' مطالبا بعقد صفقة سلاح تمكن مصر من رد العدوان.. ولما كان الرد معروفا ومقدرا مقدما.. فقد تقدم الاتحاد السوفيتي يعرض خدماته.. وكان سؤال عبد الناصر عما سوف يستفيده الاتحاد السوفيتي من معاونة مصر.. وجاء الرد واضحا كاشفا وفي حال.. وهو أن الاتحاد السوفيتي يهمه أن تصبح مصر دولة قوية تقود دول المنطقة إلي التحرر من الاستعمار، وبناء سياسة متحررة غير تابعة أو منحازة.. وأن الاتحاد السوفيتي باختصار يهمه جدا أن تبقي مصر حرة بالمعني الشامل علي أن تكون تابعة لأمريكا ودول الغرب.. وكانت صفقة السلاح الروسي بداية موقف مصري صلب في مواجهة أمريكا ودول الغرب الاستعماري.. وبداية تشكل موقف دولي قادته مصر عبد الناصر في مؤتمر باندونج الشهير.. وظهور كتلة عدم الانحياز.. والحياد الايجابي.. وكافة المواقف التي غيرت وجه العالم.. وكانت العلاقة المتكافئة بين مصر والاتحاد السوفيتي فتحا جديدا للطرفين.. وبمثل ما أفادت مصر من تلك العلاقة أفاد منها السوفيت أيضا.. فقد غادروا العزلة التي فرضتها عليهم أمريكا وتوابعها.. وانفتحوا علي دول المنطقة، ودول أفريقيا.. وأصبح صوتهم يدوي في العالم.. ويعلو فوق الصوت الاستعماري الذي لم يكن يعلو عليه صوت.. أما مصر فقد حظيت بمعاونات أساسية من الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية.. ومن فرط العلاقة المتميزة.. أصبحت مطالب مصر واحتياجاتها تحظي بالأولوية والتأييد ليس من النظام الحاكم والدوائر السياسية فقط بل تحولت إلي مطالب شعبية يحملها الشعب السوفيتي للشعب المصري الصديق.. فكان السد العالي أعظم انجازات القرن بعد معارك سياسية أرّقت العالم.. وكان مصنع الحديد والصلب قلعة الصناعة في حلوان.. ومجمع الألومنيوم بنجع حمادي، وطاقة الكهرباء الممتدة خطوطا من أسوان حتي الأسكندرية.. وعشرات المؤسسات الانتاجية.. وقد تم وقتها انجاز 97 مشروعا صناعيا عملاقا بمساهمات الاتحاد السوفيتي.. أما عن المساعدات العسكرية فيكفي القاء نظرة علي الكتب والدراسات التوثيقية ل 'أبو العسكرية المصرية الفريق أول محمد فوزي' لنعرف ذلك التفاني في العطاء.. وذلك الحرص الشديد علي ضمان قوة مصر.. وحماية مصر.. ومما لا يمكن نسيانه أو انكاره هو التعاون العلمي.. والأجيال التي تلقت العلم في الاتحاد السوفيتي.. وأصبحت تشكل النخب السياسية والعلمية التخصصية والثقافية والفنية والعسكرية.. وبعد رحيل عبد الناصر ودخول مصر في دورة زمنية خاطئة.. واكتشاف أنور السادات أن 99% من أوراق اللعب في يد أمريكا.. واندفاعه غير الرشيد.. تحت تأثير عوامل عديدة جري الخوض فيها مرارا، وفي العديد من دراسات المحللين والباحثين.. وأكثرها لا يشرف أحدا.. نقول جري اندفاع السادات باتجاه أمريكا.. والصلح المنفرد مع إسرائيل.. وما يتطلبه كل ذلك من اشتراطات وتحكمات لتقديم أوراق اعتماده في نادي ' اللعب الأمريكي' وعلي رأسها قطع كل علاقة بالسوفيت.. وقد فعلها السادات ناشرا أكاذيب وأضاليل لا حصر لها كمبررات للمؤامرة التي فاحت رائحتها وزكمت الأنوف.. وفضحها الشعب المصري نفسه.. ويذكر التاريخ وراجع مذكرات الفريق أول فوزي أن السوفيت لم يتخلوا عن مصر لحظة.. وأنهم رغم تطاول السادات وقطع العلاقات والطعن من الخلف.. وقدموا لمصر كافة احتياجاتها من الدعم العسكري واللوجستي خلال حرب أكتوبر.. وقام جسر جوي بين موسكووالقاهرة طوال أيام الحرب.. وعندما سئل السوفيت عن ذلك قالوا: إنه الوفاء لعبد الناصر والشعب المصري.. وقد بدأت تلك العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي في التحسن علي استحياء في أعقاب رحيل السادات.. وكانت الدبلوماسية المصرية سباقة لاقامة العلاقات الدبلوماسية مع 'روسيا الاتحادية' بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.. وبدأ تطور العلاقات علي المستويات الرئاسية والحكومية والبرلمانية فكانت زيارة مبارك لروسيا أعوام 1997، 2001، 2006، ثم زيارة بوتن لمصر عام 2005 وتعدد الزيارات المتبادلة بين المسئولين والوزراء المختصين وما جري خلالها حول اعادة بناء العلاقة المصرية الروسية والمباحثات المطولة حول برامج طويلة الأمد للتعاون في كافة المجالات ومنها إنشاء منطقة صناعية خاصة يسهم فيها رأس المال الروسي وتتخصص في تصنيع قطع غيار السيارات والطائرات.. ومشاريع الطاقة، والتعاون في ميدان الاستخدام السلمي للطاقة الذرية.. واستخراج وانتاج النفط والغاز الطبيعي إلي جانب انتاج سيارات 'لادا'.. وجري حوار مطول حول تعاون الجانبين بخصوص استخدام الطاقة الذرية لتوليد الكهرباء.. وكان الاتحاد السوفيتي قد أمد مصر بمفاعل ذري عام 1958.. إلي جانب المشروعات الانتاجية والتعاون في مجالات التعليم والسياحة.. ودون غض الفكر أو النظر عن تلك التطورات.. فإن ما نراه وما نلمسه بعد اندلاع ثورة 30 يونيو والسقوط المدوي لحكم الإخوان.. والمواقف المذرية لأمريكا وتوابعها.. وتوجه الشعبين المصري والروسي لاحياء العلاقات الاستراتجية بين البلدين.. والعودة إلي التعاون والبناء المشترك.. الذي من فرط أهميته قد ساهم في تشكيل عالم جديد.. وتشكلت الوفود الشعبية من البلدين لتبادل الزيارات.. وفرض الأمر الواقع علي مصر وروسيا.. وكان للزيارة الاستباقية لوزيري الدفاع والخارجية الروسيين لمصر أهمية لفتت أنظام العالم إلي أن شيئا يتخلق في المنطقة بعيدا عن النفوذ الأمريكي 'المريض' والمعادي للشعوب.. وبعدها كانت الزيارة التاريخية للمشير عبد الفتاح السيسي الذي استقبلته موسكو خلالها كبطل قومي.. والتي جري خلالها ما أسهبت الصحف العربية والعالمية في شرحه.. وما تم تسريبه حول صدمة أمريكا وتوابعها.. والتكهنات التي تناوش عقولهم جراء تلك الزيارة والاستقبال التاريخي الودود.. ولعل أخطر ما يميز ذلك الزخم هو ترحيب روسيا 'حكومة وشعبا' بعودة العلاقات المصرية الروسية.. واعلان روسيا عن استعدادها لمعاونة مصر في كافة المجالات.. وما جري الحديث عنه حول صفقات السلاح التي تشمل أنظمة الدفاع الصاروخية المتطورة 'وهي التي تتفوق فيها روسيا علي أمريكا' وأيضا الطائرات.. وغيرها.. والأخطر من كل ذلك والأكثر أهمية هو قيام الدول العربية الشقيقة بتحمل أعباء تلك الصفقات التي تشمل أيضا اصلاح وصيانة ترسانة السلاح الروسية التي ما زالت حتي الآن حجر الزاوية في تسليح الجيش المصري.. وهو ما يعني نوعا من التعاون والتنسيق بين روسيا ومصر ومعها عدد من الدول العربية ذات الثقل والتي تعلن تبرمها من تصرفات أمريكا وتوابعها.. وانحيازاتها غير المبررة للإرهاب.. ومحاولات الضغط علي مصر بالمعونة التي تترفع عنها مصر ولا تعيرها اهتماما.. ناهيك عن اعلان روسيا الحاسم بتبني قضايا مصر العادلة وعلي رأسها قضية المياه وسد النهضة الأثيوبي وتعنت أثيوبيا المدفوعة من قبل الدول المعادية وأولها أمريكا وإسرائيل وتركيا وتوابعهم.. وباختصار شديد.. فإن عودة العلاقات بين مصر وروسيا الاتحادية إلي سابق عهدها.. أيام المجد والعمل والانتاج والزهو الوطني وقيادة العالمين العربي والأفريقي.. أمر يشيع في النفس احساسا لا يشعر به إلا من عاشه.. واحساس الأمل والطموح والاستبشار الذي عاد من جديد يداعب عقول الملايين التي بنت السد العالي.. وتفصد عرقها في القلاع الصناعية.. وحاربت وانتزعت النصر.. وقامت بثورتها الرائعة.. وعرفت عمليا قيمة تلك الصداقة العظيمة بين مصر والاتحاد السوفيتي.. كل التحية للشعبين العظيمين في مصر وروسيا الاتحادية.. ولنبتسم جميعا.. فالقادم أعظم.. وأجمل..