كلّما حُوصِرَ السلفيون فكرياً ودينياً، فانكشف عوارهم، وظهرت سطحيتهم، وسذاجتهم، ووضحتْ جهالتهم فأعوزتهم الحُجَج، والبراهين، التمسوا أيَّ وسيلةٍ لهم للبقاء والوجود، بالضجيج، والصوت العالي، وإعنات الناس، وإرهابهم من خلال فتاوي، ومؤلفات إمامهم/ أحمد بن تيمية، ذلك الركن الركين، وشيخ الإسلام وناصر السُّنَّة، وقامع البدعة، وإمام سائر الزمان، من وجهة نظرهم الكليلة! فمن هو ابن تيمية، الذي صارت آراؤه مُقدَّمةً علي آراء الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، بل سائر الأئمة التسعين؟! إنه حنبلي المذهب، وليس له مذهب! بل هو تابعٌ للأئمة الكبار في آرائهم! بل، كل مؤلفاته صدي لمؤلفات العلماء الكبار، وردّ فعلٍ للآخرين، وكلها ردود حانقة، غاضبة، كارهة، عنيفة علي جميع المذاهب، والفِرَق، والمِلَل، والنِّحَل، والأديان، والإنسان إلاَّ هو وفِرقته! وإلاَّ، فأيُّ مقولةٍ جميلةٍ، وإيجابيةٍ، تحمل الخير، والنفع للناس، يحفظها له التاريخ، ويُرَدِّدها له العلماء؟! وأيُّ كتابٍ له دعا الناس، كلَّ الناس.. إلي دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة؟! خَلَفيون.. لا سلفيون! ولمعرفة هذا الرجل أكثر عن قربٍ، أدعوكم لتقرءوا معي.. هذه المناظرة المدوية، الكبري، التي أُعْلِنَ فيها عن هزيمة ابن تيمية، وهزيمة معسكره السلفي حتي اليوم، هذا المعسكر.. الذي يُتاجِرُ بآرائه في كل مكان، علي أنها دينُ الله! فالملاحظ أنه كلّما قرأنا أدبيات هذا المعسكر زاد وعينا ويقيننا بتهافت بضاعة هؤلاء الخلفيين، وضعف محصولهم وهزاله!.. وعرفنا- كذلك- أن هؤلاء بلا آباء يرتكنون إليهم، ولا يحزنون! كما ازداد يقيننا بتساقط كلام هؤلاء، ومدي تخبُّطهم حول هذه الآراء العقيمة، والأفكار البالية، التي يتشدَّقون بها صباح مساء! فقد شهدت أروقة الأزهر الشريف من المعارك الفكرية، والمساجلات الفقهية، والمطارحات الأدبية ما تنوء بحمله الركبان، وما تزخر به كتب التاريخ والتراجم والموسوعات! لكن، تبقي مناظرة الولي الصوفي/ ابن عطاء الله السكندري، والفقيه/ ابن تيمية.. حديث الناس، والعصور! فقد انتصر فيها الإمام/ ابن عطاء الله بآرائه الثاقبة، وعلمه الغزير، وتواضعه الجم علي تشدد ابن تيمية، وكثرة كلامه! إذ إنها دارت بين أكبر مدرستين في القرن السابع الهجري في مصر والشام: بين النصوصيين الأثريين الجامدين، التقليديين، المُحَنَّطين، ويمثلهم فيها الإمام ابن تيمية، وبين الصوفيين الزاهدين، ويمثلهم الإمام الربّاني ابن عطاء الله. كان ابن تيمية- ولا يزال- المرجع الأول للسلفيين في فتاواهم لتكفير المجتمع، والإفتاء بهدم، وحرق الكنائس، ومحاربة العقل، وتحريم ما أحلَّه الله، وتكفير الصوفية، والأشاعرة، والمعتزلة، والفلاسفة، والشيعة، والباطنية، وغيرهم من الفِرَق، والمذاهب! ومن المعروف، أن 'ابن تيمية' كان يُجل 'ابن عطاء الله السكندري' ويقدره، ويناديه: 'يا ولي الله'. والآخر يناديه: 'يا فقيه'! وقد حدثت بينهما مشاحنات علمية، ومناجزات فكرية، واختلفا كثيراً، ولابن عطاء تصانيف في ذلك. وقيل: إنه شهد علي ابن تيمية في عدة مسائل، فكان سببًا في دخوله السجن، فلما خرج قال له ابن تيمية: 'لا ألومك، لأنك ما قلت إلا حقاً'! المناظرة التاريخية وكان من تقدير الله، أن حدثت المناظرة بين العالِمين الجليلين، في عصر الناصر محمد بن قلاوون، وقد ذكرها كثيرٌ ممَّن أرخوا لابن عطاء الله، من أمثال: ابن كثير، والذهبي، وابن تغري بردي، والسيوطي، وغيرهم من الأعلام. وسنعتمد هنا علي الرواية التي نقلها الأديب/ عبد الرحمن الشرقاوي، في كتابه 'ابن تيمية الفقيه المُعذَّب' ونظراً لطولها، فسنختصرها قدر المستطاع. يقول الشرقاوي: 'جاء ابن تيمية من الإسكندرية إلي القاهرة، فتوجه إلي الأزهر الشريف، فرآه ابن عطاء الله، فقال: 'ألِفتُ أنْ أُصلِّي المغرب في جامع الإمام الحسين، وأُصلِّي العشاء هنا، فانظر تقدير الله، قدَّر لي أن أكونَ أول مَن يلقاك، أَعاتبٌ أنتَ عليَّ يا فقيه؟'. فقال ابن تيمية: 'أَعرف أنكَ ما تعمدتَ إيذائي، ولكنه الخلافُ في الرأي، علي أنَّ كل من آذاني فهو منذ اليوم في حِلٍّ مِنِّي'. ثناء متبادل فقال ابن عطاء الله: 'فماذا تعرفُ عنِّي يا شيخ ابن تيمية؟'. قال: 'أعرف عنك الورع، وغزارة العلم، وحدة الذهن، وصدق القول، وأشهد أني ما رأيتُ مثلك في مصرَ ولا في الشام حباً لله، أو فناءً فيه، أو انصياعاً لأوامره ونواهيه، ولكنه الخلافُ في الرأي.. فماذا تعرف عنِّي أنت، وتحكم عليَّ بالضلال إذْ أنُكر استغاثة غير الله؟'. فقال ابن عطاء الله: 'إني أعجبُ لكَ يا فقيه، فأنتَ نصيرُ السنة، تستوعب الآثار حفظاً وفهماً كامل الفكر، سريع الإدراك. ولكنك تُطلقُ عباراتٍ أَحجَمَ عنها الأولون والآخرون، وتخرُج فيها عن مذهب إمامك أحمد، ومذاهب سائر الأئمة'. فقال ابن تيمية: 'مَن تعصَّب لمذهبٍ بعينه، فقد أشبه أهلَ الأهواء'! فرد ابن عطاء الله: 'أما آن لكَ يا فقيه أن تعرف أن الاستغاثة هي الوسيلة والشفاعة، وأن رسول الله يُستغاث ويُتوسل به، ويستشفع به؟'. فأجاب ابن تيمية: 'أنا في هذا أتبع السنة، وقد أمر الرسول ابن عباس ألا يستعين بغير الله. أما الاستغاثة ففيها شبهة الشرك، ومنعها سداً للذرائع، قال تعالي: ﴿ فَلا تَدْعُوا مع اللَّه أَحَداً ﴾. فقال ابن عطاء: 'أصلحك الله يا فقيه، إن الرسول أراد من ابن عمه أن يتقرب إلي الله بعلمه، لا بقرابته منه. وأما فهمك أن الاستغاثة بغير الله فهي شرك، فمن مِن المسلمين الذين يؤمنون بالله ورسوله يحسب أن غيره - تعالي- يقضي ويُقدِّر ويُثيب ويُعاقِب؟ إنما هي ألفاظٌ لا تؤخذ علي ظاهرها، ولا خوف من الشرك لنسد إليه الذريعة، فكل من استغاث بالرسول، فهو إنما يستشفع به عند الله مثلما تقول أنت: أشبعني الطعام، فهل الطعام هو الذي أشبعك، أم أن الله تعالي هو الذي أشبعك؟ أما تحريمك الاستغاثة لأنها ذريعة إلي الشرك، فإنك كمن أفتي بتحريم العنب لأنه ذريعة إلي الخمر، وبخصي الذكور غير المتزوجين سداً للذريعة إلي الزنا'! دفاع عن ابن عربي! ثم عاتبه ابن عطاء علي كلامه في ابن عربي، فقال له: 'إن الأخذ بظاهر المعني يُوقعِ في الغلط أحياناً يا فقيه، ومن هذا رأيُكَ في ابن عربي، فقد فهمت ما كتبه علي ظاهره، والصوفية أصحاب إشارات وشطحات روحية، ولكلماتهم أسرارٌ، فكان يتعين علي مَن هو في مثل حذقك، وحدة ذهنك، وعلمك باللغة أن يبحث عن المعاني المكنونة الخفية وراء الكلمات، فالمعني الصوفي روح، والكلمة جسد، ثم إنك اعتمدت في حكمك علي نصوص قد دسَّها خصوم ابن عربي عليه. وشيخ الإسلام/ عز الدين بن عبد السلام، لمّا فَهِمَ كتاباته, وحلَّ رموزها وأسرارها, وأدرك إيحاءاتها، استغفر الله عما سلف منه، وأقرَّ بأن ابن عربي إمامٌ من أئمة الإسلام. ثم سأله ابن عطاء عن الإمام/ علي بن أبي طالب، وعن الإمام/ أحمد بن حنبل؟ فأثني ابن تيمية عليهما كثيراً.. فقال ابن عطاء: فهل هما يُحاسبان بما فعل المتعصبون لهما والغالون فيهما؟ فسكت ابن تيمية، وأطرق! بعد ذلك سأل ابن تيمية صاحبه عن لبس الخرق، وما يروي من الكلام فيها؟ لباس الصوفية والتكاليف! فقال ابن عطاء الله: ما كل الصوفية يلبسون الخرق, وهاأنذا أمامك فما تُنكِر من هيئتي؟! فقال ابن تيمية: أنت من رجال الشريعة, وصاحب حلقة في الأزهر. فرد عليه ابن عطاء الله: نحن نُعلِّم الصوفية أن القذارة ليست مِن الدين، وأن النظافة من الإيمان، وأن الصوفي الصادق يجب أن يعمر قلبه بالإيمان الذي يعرفه أهل السنة. وقد ظهر منذ قرنين بين الصوفية أشياء كالتي تُنكرها الآن، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وادعوا أنهم تحرروا من رِق الأغلال، ثم لم يرضوا بما تعاطوه مِن سوء هذه الأفعال، حتي أشاروا إلي أعلي الحقائق والأحوال كما وصفهم القشيري! فقال ابن تيمية: 'هذا الكلام عليك لا لك، فالقشيري لَمّا رأي أتباعه يضلون الطريق قام عليهم ليُصلحهم، فماذا فعل شيوخ الصوفية في زماننا؟ أريد مِن الصوفية أن يسيروا علي سنة هذا السلف العظيم من زهاد الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. أما الابتداع, وإدخال أفكار الوثنين من متفلسفة اليونان, وبوذية الهند, كادِّعاء الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ونحو ذلك مما يدعو إليه صاحبك ابن عربي، فهذا هو الكفر المبين! فردَّ عليه ابن عطاء الله قائلاً: ابن عربي رضي الله عنه، كان من أكبر فقهاء الظاهر بعد ابن حزم الفقيه الأندلسي المقرب إليكم يا معشر الحنابلة، ولكنه يسلك إلي الحقيقة طريق الباطن, أي تطهير الباطن.. ولكيلا تضل أو تنسي، أعد قراءة ابن عربي بفهمٍ جديد لرموزه, وإيحاءاته تجده مثل القشيري, قد اتخذ طريقه إلي التصوف في ظلٍّ ظليلٍ من الكتاب والسنة, إنه مثل حجة الإسلام الإمام الغزالي، يحمل علي الخلافات المذهبية في العقائد والعبادات, ويعتبرها انشغالاً بما لا جدوي منه, ويدعو إلي أن محبة الله هي طريقة العابد في الإيمان، فماذا تنكر من هذا يا فقيه.. أم أنك تحُب الجدل الذي يمزق أهل الفقه؟ لقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يُحذِّر من الجدل في العقائد ويقول: 'كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص الدين'! فقال ابن تيمية: إن الإمام/ أبا الحسن الشاذلي ممَّن انتقدوا ابن عربي- فما رأيك؟ فأجاب ابن عطاء: كلام الشاذلي ضد ابن عربي، ليس قائله أبو الحسن، بل قاله أحد تلاميذه من الشاذلية، الذين فهموا كلام ابن عربي علي غير وجهه. واعلم يا فقيه، أن أداء التكاليف الشرعية في رأي ابن عربي, وابن الفارض, عبادة محرابها الباطن, لا شعائر ظاهرية, فما جدوي قيامك وقعودك في الصلاة إذا كنت مشغول القلب بغير الله؟ لقد مدح الله أقواماً بقوله 'الذين هم في صلاتهم خاشعون' وذم أقواماً بقوله 'الذين هم عن صلاتهم ساهون' وهذا هو الذي يعنيه ابن عربي بقوله: 'إن التعبد محرابه القلب'، أي الباطن لا الظاهر. فالمسلم لا يستطيع أن يصل إلي إدراك علم اليقين, وعين اليقين, إلا إذا أفرغ قلبه مما يشوش عليه من أطماع الدنيا، وركَّز في التأمل الباطني، فغمرته فيوض الحقيقة. كما أن الصوفي الحق، ليس هو الذي يستجدي قوته, ويتكلف الناس, إنما هو الصادق الذي يهب روحه وقلبه, ويفني في الله بطاعة الله, ومن هنا تنبع قوته، فلا يخاف غير الله. ولعل ابن عربي قد أثار عليه بعض الفقهاء، لأنه أزري علي اهتمامهم بالجدل في العقائد, مما يُشوِّش علي صفاء القلب, ثم في فروع الفقه وافتراضاته فأسماهم 'فقهاء الحيض' وأعيذك بالله أن تكون منهم! ألم تقرأ قول ابن عربي 'من يبني إيمانه بالبراهين والاستدلالات فقط لا يمكن الوثوق بإيمانه, فهو يتأثر بالاعتراضات, فاليقين لا يستنبط بأدلة العقل، إنما يغترف من أعماق القلب'! ألم تقرأ هذا الكلام الصافي العذب قط؟ فقال ابن تيمية بأدبٍ جم: أحسنت والله، إن كان صاحبك كما تقول، فهو أبعد الناس عن الكفر! فقال ابن عطاء الله: إن لابن عربي لغة خاصة, وهي مليئة بالإشارات والرموز والإيحاءات والأسرار. ولكن فلنشتغل بما هو أجدي, وبما يحقق مصلحة الأمة، فلنشتغل بدفع الظلم, وحماية العدل المنتهك. أرأيت ما فعله بيبرس، وسلار بالرعية منذ خلع الناصر نفسه, فانفرد بالحكم, وإن عاد السلطان الناصر وهو يؤثرك علي كل الفقهاء, ويستمع لك فأسرع إليه وانصح له'! وهكذا، رجع ابن تيمية عن كل أرائه الحادة، التكفيرية، فاعترف بمكانة الصوفية، وعظيم إسهاماتهم، فانهزم هزيمةً نكراءَ، لم تشهد ساحات الأزهر الشريف لها مثيلاً! وهكذا تهاوت آراؤه، وفتاواه، التي يُحارِبنا بها اليوم السلفيون أمام منطق، وعلم، وأدب، وفقه الإمام/ ابن عطاء الله السكندري رحمه الله! فهل قرأ الخلفيون- المُتمسِّحون بالسلف الصالح رضي الله عنهم -هذه المناظرة في كُتُب التاريخ؟! أشك في ذلك! لماذا؟! لأنَّ السلفيين لا يقرأون، بل يسمعون كلام شيوخهم، ويُرَدِّدونه، بلا تفكيرٍ، ولا تمحيصٍ! ويكتفون بما يقوله لهم سادتهم في نجد، وفي الدعوة السلفية بالإسكندرية، من هراءٍ، وخرافاتٍ.. لا علاقة لها بالدين! تنبيه ورجاء! بعد كل ما تقدَّم، أرجو- وكلي رجاء- من القارئ أنْ يحذر كلَّ الحذر من هؤلاء الخلفيين الذين يسمون أنفسهم ب'السلفيين'! فهؤلاء أكثر خطورةً علي مصر، والإسلام من الإخوان! لأن الإخوان انتهازيون، متآمرون، ووجههم مكشوف، ولا علاقة لهم بالدين من قريبٍ أو بعيد! أما الخلفيون، فيرفعون راية الشريعة زوراً، ويُفتون بحرمة الحياة، وتكفير السياسة، والأدب، والفن، ومعاداة العلم، وحبس المرأة في خِدرها، وينادون بالعودة إلي عصر الناقة، والصحراء، وزمن الجواري والإماء! فأرجوكم.. أرجوكم قولوا: نعم.. نعم لمصر، العزة، والكرامة، والحضارة. وقولوا للخَلَفِيين وللإخوان كلمةً واحدة: لا.. وألف لا لعودتكم مرةً أخري! فالمؤمن، لا يُلدَغ من جُحر الخيانة الإخوانية والسلفية مرَّتين!