أحمد موسى عن قرار إغلاق المحال الساعة 10 مساء: يحتاج لدراسة متأنية    مصادر في غزة: ارتفاع ضحايا الهجوم الإسرائيلي على بيت لاهيا إلى 15 شهيدا    أحمد موسى: الإعلان عن مشروع زراعي ضخم يخدم المنيا قريبا    شنطة هاجر أحمد تتصدر الترند.. ما القصة؟    50 مليون إسترليني تقرب نجم لايبزيج من مانشستر سيتي    مراجعات «مجانية» للثانوية العامة على بوابة أخبار اليوم حتى نهاية الامتحانات    «مناظرة النفس الأخير».. سقطات أنهت أحلام المرشحين برئاسة أمريكا    رامي جمال يطرح أغنية يا دمعي على يوتيوب    لطيفة تطرح أغنية «مفيش ممنوع» على اليوتيوب    أحمد موسى: هناك من يحاول استغلال أزمة الكهرباء لتحقيق مصالح ضد الدولة    بالأسماء.. مصرع 6 أشخاص وإصابة 3 في حادث تصادم ب"زراعي البحيرة"    التعليم تعلن نتيجة امتحانات الدور الأول للطلاب المصريين بالخارج    جولر يقود تشكيل تركيا ضد التشيك فى يورو 2024    5 صور ترصد زحام طلاب الثانوية العامة داخل قاعات مكتبة الإسكندرية    جداول تنسيق القبول بمدارس الثانوى الفنى الصناعى والتجارى والفندقى بالجيزة .. تعرف عليه    على أنغام أغنية "ستو أنا".. أحمد سعد يحتفل مع نيكول سابا بعيد ميلادها رفقة زوجها    هل يجوز الاستدانة من أجل الترف؟.. أمين الفتوى يجيب    أحمد المسلمانى: أمريكا تقدم نفسها راعية للقانون وتعاقب الجنائية الدولية بسبب إسرائيل    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    بالفيديو.. أمين الفتوى: العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عليها أجر وثواب    في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات- هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان؟    القوات المسلحة تنظم مؤتمراً طبياً بعنوان "اليوم العلمى للجينوم "    لماذا يقلق الغرب من شراكة روسيا مع كوريا الشمالية؟ أستاذ أمن قومي يوضح    «قطاع الآثار»: فيديو قصر البارون عار تمامًا من الصحة    الرئيس السيسي يوقع قوانين بربط الحساب الختامي لموازنة عدد من الهيئات والصناديق    وزير الرى يدشن فى جنوب السودان مشروع أعمال التطهيرات بمجرى بحر الغزال    ثلاثي مصري في نهائي فردي الناشئات ببطولة العالم للخماسي الحديث بالإسكندرية    بشرى لطلاب الثانوية العامة.. مكتبة مصر العامة ببنها تفتح أبوابها خلال انقطاع الكهرباء (تفاصيل)    صندوق النقد الدولي يقر بتمويل 12.8 مليون دولار للرأس الأخضر    مساعد وزير البيئة: حجم المخلفات المنزلية يبلغ نحو 25 مليون طن سنويا    كيف يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على الرحلات الجوية؟.. عطَّل آلاف الطائرات    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    «مياه كفر الشيخ» تعلن فتح باب التدريب الصيفي لطلاب الجامعات والمعاهد    اخوات للأبد.. المصري والإسماعيلي يرفعان شعار الروح الرياضية قبل ديربي القناة    المشدد 15 سنة لصاحب مستودع لاتهامه بقتل شخص بسبب مشادة كلامية فى سوهاج    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    منتخب اليد يتوجه إلى كرواتيا 4 يوليو استعدادا لأولمبياد باريس    خبير شئون دولية: فرنسا الابن البكر للكنيسة الكاثوليكية    مهرجان فرق الأقاليم المسرحية.. عرض «أحداث لا تمت للواقع بصلة» و«الحضيض» الليلة    «التمريض»: «محمود» تترأس اجتماع لجنة التدريب بالبورد العربي (تفاصيل)    الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي: صرف معاشات شهر يوليو اعتبارا من الخميس المقبل    نجم ميلان الإيطالي يرفض عرض الهلال السعودي ويتمسك بالبقاء في أوروبا    وزيرة البيئة تتابع حادث شحوط مركب سفاري بمرسى علم    الصحة: استجابة 700 مدمن للعلاج باستخدام برنامج العلاج ببدائل الأفيونات    الإعدام لثلاثة متهمين بقتل شخص لسرقته بالإكراه في سوهاج    شديد الحرارة رطب نهارًا.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس غدا الخميس    لجنة القيد بالبورصة توافق على الشطب الإجبارى لشركة جينيال تورز    مختار مختار: عدم إقامة مباراة القمة خسارة كبيرة للكرة المصرية    ختام دورة "فلتتأصل فينا" للآباء الكهنة بمعهد الرعاية    تعيين 4 أعضاء جدد في غرفة السلع والعاديات السياحية    المنظمات الأهلية الفلسطينية: الاحتلال يمارس جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة    فحص 764 مواطنا فى قافلة طبية مجانية بقرى بنجر السكر غرب الإسكندرية    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    الأكاديمية الطبية تفتح باب التسجيل في برامج الماجستير والدكتوراة بالمعاهد العسكرية    أحمد فتحي: انسحاب الزمالك أمام الأهلي لا يحقق العدالة لبيراميدز    «حلو بس فيه تريكات».. ردود فعل طلاب الثانوية الأزهرية بقنا عقب امتحان النحو    الجريدة الكويتية: هجمات من شتى الاتجاهات على إسرائيل إذا شنت حربا شاملة على حزب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منارات الحكمة العربية (5-7) حكيمُ الصوفية ابنُ عطاء الله السكندرى
نشر في المصري اليوم يوم 21 - 02 - 2012

فى ابتداء القرن الثامن الهجرى، كان أشهر فقهاء ذاك الزمان فى مصر والشام هو تقىُّ الدين ابن تيمية، بينما كان ابن عطاء الله السكندرى هو أشهر رجال التصوف فى مصر. وفى خاتمة المقالة المنشورة هنا الأسبوع الماضى، أشرتُ إلى أن هناك «صلة» جمعت بين هذين الرجلين الكبيرين، ولم يكن مقصودى بذلك هو تلك المناظرة المزعومة التى قيل إنها جرت بينهما فى القاهرة، التى كان الصوفىُّ المالكى البديع «ابن عطاء الله» قد انتقل إليها من الإسكندرية، للعيش بها وللتدريس فى الأزهر وفى المدرسة المنصورية، وكان الفقيهُ الحنبلى المجاهد «ابن تيمية» قد عاد إليها سنة 707 هجرية، بعد أشهرٍ قضاها فى الإسكندرية، منفياً بأمر السلطان.
والمناظرةُ المزعومةُ بين الرجلين، حكاها بالتفصيل الأستاذ (عبدالرحمن الشرقاوى) فى كتابه: الفقيه المعذَّب ابن تيمية، وألمح إليها الشيخ (محمد أبوزهرة) على استحياء، فى كتابه عن ابن تيمية. وهى تضم حواراً طويلاً من المفترض أنه جرى بين الإمامين، الفقيه والصوفى، وكانت الغلبة فيها لابن عطاء الله الذى دافع عن التصوف ودفع هجوم ابن تيمية على الصوفية ودمغ حججه بالبطلان.. وقد تحاذق كثيرٌ ممن تناقلوا مؤخراً هذه المناظرة، ونشروها بوفرةٍ على شبكة الإنترنت، مؤكِّدين وقوعها بقولهم إنها وردت عند اثنين من كبار المؤرِّخين القدماء، هما ابن الأثير وابن كثير.. وهو زعمٌ باطل لأن «ابن الأثير» توفى قبل مولد الرجلين، أصلاً، بعشرات السنين! ولأن «ابن كثير» لم يفصح عن وقوع (مناظرة) بين الفقيه ابن تيمية، والصوفى ابن عطاء الله السكندرى.
■ ■ ■
وأعتقد من وراء ذلك، ومع يقينى أن المناظرة مكذوبة، أن هناك «صلة» جمعت بين هذين الرجلين الكبيرين اللذين أرى فى كُلٍّ منهما (منارة) من منارات الحكمة العربية، على الرغم من الاختلاف الظاهر بين موقف كل واحدٍ من الاثنين على حدة. وهذه الصلة فيما أرى، قامت على (الوصلة) الوثيقة بين الفقه والتصوف. فقد بدأ ابنُ عطاء الله حياته العلمية فى الإسكندرية، فقيهاً على المذهب المالكى، وكان يتعجَّب من منهج الصوفية وينعى عليهم اعتقادهم بأن هناك علماً آخر يختصون به، غير الفقه، حتى التقى بأبى العباس المرسى (تلميذ أبى الحسن الشاذلى) فعرف منه أن الفقه علمٌ ظاهر يتعلق بالظواهر، وللتصوف من بعد ذلك معارف تتعلق بالقلوب والبواطن، وأنه لا خلاف على الحقيقة بين الجانبين: الظاهر والباطن، الشريعة والحقيقة، العقل والقلب، الفقه والتصوف.. يقول ابن عطاء الله فى كتابه (لطائف المنن فى مناقب أبى العباس المرسى وشيخه أبى الحسن) ما مفاده: كنتُ منكراً على الشيخ أبى العباس المرسى معترضاً عليه، ثم أتيتُ مجلسه فوجدته يتكلم فى الأنفاس (الأذواق) التى أمر بها الشرع، ومراتبها، فيقول إن أولها الإسلام وثانيها الإيمان وثالثها الإحسان، وإن شئت قلت أولها شريعة وثانيها حقيقة وثالثها تحقُّق، وإن شئت قلت.. إلخ.
انبهر ابن عطاء الله بأبى العباس «المرسى» ولازمه من يومها، على النحو الذى يذكِّرنى بما جرى قبل لقائهما بقرابة اثنى عشر قرناً من الزمان، فى الإسكندرية أيضاً، حين حضر إليها من صعيد مصر الفيلسوف الشاب «أفلوطين» ودخل على الحكيم السكندرى البديع «أمونيوس ساكاس» فوجده يتكلم فى المعرفة على رأى الفلاسفة، فصاح: هذا ما كنت أبحث عنه.. ثم لازمه حتى تعلَّم منه أصول الحكمة، وصار من بعده واحداً من أهم فلاسفة الإنسانية.
ما الصلة بين ابن تيمية وابن عطاء الله السكندرى؟.. إنها الجمع بين الفقه والتصوف، فقد كان كلاهما فى الأصل فقيهاً، ثم صار له طريق إلى التصوف. غير أن حكيم الصوفية «ابن عطاء الله» توغَّل فى الطريق الصوفى، من دون أن يتخلَّى عن الفقه والتدريس، بينما انشغل المجاهد العتيد «ابن تيمية» ببلايا زمانه وسوء الأحوال، فحال ذلك دون التوغُّل فى مشاربه الصوفية التى رأيناها فى أعماله التى لا يروَّج لها، مثل شرحه لكتاب (فتوح الغيب) ومثل رسالته اللطيفة: الصوفية والفقراء.. وكأننى بالرجلين، ابن تيمية وابن عطاء الله، اللذين كانا متعاصرين وكان لكل منهما وجهةٌ تولاها، هما فى حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة جامعةٍ بين الفقة والتصوف فى إطار «الحكمة»، التى كان كُلٌّ منهما منارةً لها، على طريقته الخاصة.
واللافت للنظر هنا، أنه على الرغم من تقارب الرجلين فى زمن الميلاد، حيث وُلد ابن تيمية سنة 661 هجرية وكان مولد ابن عطاء الله قبله بأقل من ثلاثة أعوام. وعلى الرغم من أن المتصوف منهما «ابن عطاء الله» عاش فى الإسكندرية والقاهرة حياة وادعة هادئة، ولم يخرج من مصر؛ بينما مَرَّ الفقيه «ابن تيمية» بأهوالٍ كثيرة وأحوالٍ شداد، فقضى معظم حياته متنقلاً (وهارباً) من حرَّان إلى الشام، ومن مصر إلى الشام، ومعتقلاً سياسياً فى القاهرة ودمشق لمرات عديدة، ومحارباً للتتار حينا ومضروباً من المسلمين المخالفين له أحياناً. إلا أن ابن تيمية عاش فى ظل ظروفه الحياتية المضطربة، زمناً أطول مما عاشه ابن عطاء الله فى كنف الرحابة الروحية! فقد توفى ابن عطاء الله السكندرى فى القاهرة فور تخطيه الخمسين من عمره، سنة 709 هجرية، بينما عمَّر ابنُ تيمية من بعده حتى بلغ السابعة والستين، ثم توفى حبيساً فى دمشق سنة 728 هجرية.. والعجيبُ أن كليهما دُفن فى مقابر الصوفية هنا وهناك (لا يزال قبر ابن عطاء الله، بالمقطم، يُزار إلى اليوم) وفى ذلك عبرة لذوى البصائر، عند تأمل النهايات والمصائر.
وقبل أن نترك هذه السمة (الصلة) الجامعة بين الفقه والتصوف، وكيلا يترسَّخ فى أذهان الناس وَهْمُ الاختلاف بينهما، ولئلا يظنّ البعض أنهما أمران متعارضان؛ لا بد هنا من تأكيد حقيقةٍ دقيقةٍ، ملخَّصها أن التصوف والفقه كانا دوماً يجتمعان عند أفراد الرجال، فلا يمكن أن نجد شيخاً صوفياً كبيراً (خصوصاً الذين تصدَّروا لتربية المريدين) يجهل الفقه ولطالما كان شيوخ الصوفية يبدأون بالفقه قبل التصوف، ثم يجمعون فى النهاية بين الأمرين، مثل أبى القاسم الجنيد (شيخ الطائفة) وعبدالقادر الجيلانى، وجلال الدين الرومى، وفريد الدين العطار، وغير هؤلاء كثير.. أما الذى يخوض غمار الطريق الصوفى (الطريقة) من غير البدء بالمعارف الفقهية (الشريعة) فهو «مجذوب» لا يعوَّل على أحواله عند أهل (الحقيقة) ومن هنا يقول الصوفية: مَنْ تشرَّع ولم يتحقَّق فقد تفسَّق، ومَنْ تحقَّق ولم يتشرَّع فقد تزندق.
■ ■ ■
لماذا سُمِّى ابن عطاء الله السكندرى، حكيم الصوفية؟.. لأن الكتاب الأشهر بين المؤلفات التى تركها، كان عنوانه: الحِكم (جمع حكمة) ويبدو أن العنوان الأصلى للكتاب كان «الحكم الإلهية» لكنه اشتهر بين الناس بعنوان: الحكم العطائية.
والكتابُ عبارة عن فقرات قصيرة، بليغة، تعبِّر عن المعانى الروحية الرحبة، وتلخِّص الحقائق الصوفية التى يعرفها أهل الإلهام. ولم يكن ابن عطاء الله السكندرى هو أول من رسم هذا الطريق التأليفى بين الصوفية، ولم يكن الصوفية بعامة هم الذين ابتكروا هذا النوع من الكتابة.. فمن قبل ظهور التصوف (والإسلام ذاته) بمئات السنين، كتب الطبيب اليونانى القديم «أبقراط» مجموعة من الحكم الطبية فى كتابه الشهير: الفصول، وكتبَ الفلاسفة والحكماء أقاويل بليغة وعميقة، جُمعت لاحقاً فى كتب سُميت: نوادر الفلاسفة. وفى مجال التصوف تحديداً، ومن قبل ابن عطاء الله السكندرى بزمنٍ طويل، كتب النِّفَّرى (المواقف) و(المخاطبات) وهما نصَّان يقتربان أسلوبياً من طبيعة الحكم العطائية، التى يقترب منها أيضاً ما كتبه الإمام عبدالقادر الجيلانى فى مقالاته الرمزية التى جمعتُها فى ديوانه الشعرى والنثرى الذى أصدرته منذ سنوات (وكان أصلاً هو الجزء الثانى من رسالتى للدكتوراه).
«الحكم العطائية» إذن، ليست كتاباً فريداً فى بابه. لكنها نالت شهرةً واسعة عند الصوفية ومحبى التصوف، نظراً لكثافة لفظها واتساع معانيها، وهو الأمر الذى دعا كثيرين لوضع (شروح) على هذه الحكم، منهم صوفية كبار من أمثال ابن عجيبة الحسنى والشيخ أحمد زرُّوق، وكثير من الشُّراح الذين لا يكاد عددهم يقع تحت الحصر، ولعل آخرهم زمناً هو الدكتور على جمعة (مفتى الجمهورية) الذى عرفتُ فيه ذوقاً صوفياً، قبل سنوات طوال من توليه رئاسة الإفتاء بمصر.. اللافت للنظر هنا، أن أكبر شخصيتين دينيتين اليوم فى مصر (المفتى، شيخ الأزهر) انطلقا أصلاً من ميدان التصوف، فكانت للمفتى أذواقه الروحية، وللإمام الأعظم دراساته فى شيخ الصوفية الأكبر «ابن عربى». ومع ذلك، نجح السلفيون الذين يكرهون التصوف، فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة!
■ ■ ■
وشُرَّاح الحكم العطائية، الكثيرون، يبدأون دوماً بإيراد كلام ابن عطاء الله، ثم يعقبون عليه ويتوسَّعون فى بيان معانيه، بحسب ما يفهمه الشارح وما يعرفه من دلالات صوفية لهذه (الحكمة) أو تلك.. ولسوف نتبع فيما يلى، ونحن بصدد التعريف بهذا الكتاب، طريقاً عكسياً:
فى الإنسان ميلٌ فطرى للظهور والاستعلاء والطاووسية، وهو أمرٌ يمكن ملاحظته فى الأطفال أكثر من الكبار، فالطفل الصغير إذا ارتدى ملابس جديدة تعجبه، تاه بها دلالاً وفخراً واغتراراً، وودَّ لو نظر الجميع إليه. وهو يحرص، بعكس الكبير، على لفت الأنظار إليه بالصخب أو بالصراخ، حتى يلتفت إليه الآخرون ويؤكِّدون له وجوده. وكلما نضج الإنسان وارتقى حاله، تخلَّص تدريجياً من هذه الرعونة المتمثلة فى حب الظهور ولفت الأنظار. ولذلك، مثلاً، ترى الشاب الصغير إذا قاد سيارة يُعلى صوت الأغانى، استجلاباً لنظر الناس (خصوصاً الفتيات) ولا يفعل مثل ذلك إذا تقدم فى العمر وتعقَّل. إذن، الظهور والتباهى والخيلاء كلها دلائل على نقصٍ، بينما الاتزان والتوارى والتواضع (= الخمول) دليلُ نضج فى كل إنسانٍ وسبيلٌ للترقى فى الحكمة.. كيف عبر ابن عطاء الله السكندرى عن هذا المعنى؟ قال: ادفنْ وجودك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يصلح دفنُهُ، لا يتم نتاجُه.
وفى النفس الإنسانية ميلٌ فطرى إلى التعجل، ولذلك قالت الآية القرآنية وكان الإنسان عجولاً، وقال ديكارت إن من أفدح أخطاء العقل الإنسانى «التسرع فى الحكم» وقالت خبرات الحيوات الإنسانية إن كثيراً مما يود الفرد حصوله، يكون سبباً فى تعاسته وهلاكه. فكم من عاشقٍ سعى إلى الارتباط بمعشوقةٍ ثم كانت وبالاً عليه، وكم من طامحٍ إلى مالٍ أو منصبٍ أو جاه، ثم أتاه الغمُّ بعد حصول ما كان يطمح إليه ويتمناه. إذن، الإنسان يريد الأشياء ويدعو الله لحصولها، وهو غير مدرك أنها قد تكون سبباً فى تعاسته!
ويستبطئُ الاستجابة من الله مع أن الإبطاء رحمة باطنة لا يدرك المرءُ حكمتها.. كيف عبَّر حكيمُ الصوفية عن ذلك؟ قال: لا يكن تأخر أمر (= وقت) العطاء مع إلحاحك فى الدعاء، موجباً ليأسك؛ فهو (= الله) ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختار لنفسك؛ وفى الوقت الذى يريد، لا فى الوقت الذى تريد.. ثم أضاف ابن عطاء الله: لا تشكَّ فى الوعد لعدم وقوع الموعود، كيلا يكون ذلك قدحاً فى بصيرتك وإخماداً لنور سريرتك (= قلبك).
وفى الإدراك الإنسانى للأمور خاصية لا سبيل إلى الخلاص منها، هى ضرورة أن تكون هناك «مسافة» تسمح للإنسان بالإدراك. فإذا ما اقترب أحد من لوحة فنية حتى كادت المسافة تنعدم، لم يمكنه أن يرى اللوحة أو أىَّ مرئىٍّ آخر، لقرب المسافة. وكذلك الحال مع بقية المدرَكات وطرق الإدراك. وقد قال تعالى فى قرآنه، إنه أقرب إليه من حبل الوريد كنايةً عن القرب الشديد! وقال الصوفية إنهم يشعرون بالله حاضراً فى كل شىء، ويرونه متجلياً فى كل موجود بالكون، لكن عموم الناس لا سبيل لهم لمعرفة هذا المعنى، فيكونون بعيدين عن الله مع أنه قريبٌ جداً منهم.. فكيف صاغت الحكم العطائية هذا المعنى؟ يقول ابن عطاء الله: إنما حجب الحقَّ (= الله) عنك، شدةُ قربه منك! ويقول: إنما احتجب لشدة ظهوره، وخفى عن الأبصار لعظم نوره! ويقول: علم (= الله) أن العباد يتشوَّفون إلى ظهور سر العناية (=الإلهية) فقال يختصُّ برحمته مَنْ يشاء.
ومن طبيعة الإنسان الجزعُ عند وقوع الواقعات، والفزعُ عند حدوث الابتلاءات من حرمان أو فقر أو فاقة؛ مع أن ذلك قد يكون هو السبيل لتصفية النفس من شوائب البشرية، ولذلك جاء فى الخبر أن أشدَّ الناس ابتلاءً الأنبياءُ ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. ومن هنا، دعا الصوفية إلى سكون العبد عند الابتلاء، وحكيم الصوفية يصوغ من دُرر الكلام ما يعبِّر عن هذا المعنى، فيقول ما نصُّه: الفاقات بَسْطُ المواهب.. ويقول: ورودُ الفاقات (= حدوث الابتلاءات) أعيادُ المريدين.. ويقول: ربما تجد مع المزيد من الفاقات، ما لا تجده فى الصوم والصلاة! وهو المعنى الذى ورد فى كلام بليغٍ للإمام عبدالقادر الجيلانى، الذى دعا مريديه إلى الترحيب بالابتلاء، والابتهاج بافتقار الأفئدة إلى الله، ومعرفة الله بالفقر إليه؛ فقال إنه سمع فى أنحاء روحه خطاباً (فهوانياً) إلهياً: يا غوثَ الأعظم، قل لأحبابك وأصحابك: «مَنْ أراد منكم صحبتى فعليه بالفقر، ثم فقر الفقر، ثم الفقر عن الفقر». فإذا تمَّ فقرهم، فلا ثَمَّ إلا أنا.
■ ■ ■
ولولا محدودية المساحة هنا، لأفضتُ فى الكلام عن الحكم العطائية والآفاق الرحيبة لمعانيها الروحية، وارتباطها ببقية الرؤى الصوفية التى تمت صياغتها بحساسية أسلوبية عالية، كثيفة الدلالة، لا يمكن قراءتها على الوجه الصحيح إلا بعين القلب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.