عَكَست كلمات الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلي الصحفيين الذين وجدوا في حديقة البيت الأبيض مساء أول أمس السبت ارتباكًا واضحًا في طريقة تعامل الإدارة الأمريكية مع المسألة السورية فبعد أن أقامت الولاياتالمتحدة الدنيا ولم تقعدها عن استعدادها لتوجيه ضربة عسكرية إلي سوريا وتجييشها للإعلام في الداخل والخارج والاستنفار العسكري والأمني بين حلفائها الاوربيين فوجئت واشنطن بأن دعم الاصدقاء لها غير كافِ لقصف دولة شرق أوسطية كانت تحيطها في السابق ظروف أكثر ملائمة لتوجيه ضربة عسكرية مؤثرة لها.... فإيطاليا التي شاركت قواتها في السابق في مهمات خارجية في كوسوفو وأفغانستان تحت المظلة الأمريكية رفضت دعوة واشنطن بالمشاركة في قصف سوريا، بل حذرت وزيرة الخارجية الإيطالية إيما بونيتو واشنطن من تداعيات شن عملية عسكرية ضد سوريا.. أما المستشارة الألمانية ميركل فبعد أن انتفخت بأكاذيب أمريكية عن استخدام الأسلحة الكيميائية خرجت لتهاجم ما سمته سلوك الحكومات الفاشية التي تقتل شعوبها، تراجعت فجأة عن المشاركة في الضربة العسكرية ضد سوريا بعد اجتماعها مع قادة الجيوش الألمانية ورؤساء الأركان.. لكن الصدمة الكبري التي أسهمت في تفاقم حالة عدم الاتزان التي بدا عليها الرئيس أوباما امام الصحفيين مساء السبت فهي رفض مجلس العموم البريطاني 'البرلمان' مشاركة الولاياتالمتحدة عملية عسكرية ضد سوريا بعد أن لجأ إليه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون طالبًا التصويت علي مشاركة كل من سلاح الجو الملكي والبحرية الملكية البريطانية في المعركة المرتقبة.. وعلي الرغم من أن هذه هي المرة الأولي التي قد تضطر فيها الولاياتالمتحدة لشن عملية عسكرية بدون مشاركة حليفها الرئيسي بريطانيا فإن رفض مجلس العموم اعتبر رسالة ذات مغزي لرئيس الوزراء كاميرون الذي يملك حزبه أغلبية برلمانية كانت تمكنه من حسم هذا التصويت الا ان المفاجأة هي أن عدد لا بأس به من أعضاء الحزب الحاكم صوتوا ضد القرار وهو ما سبب إحراجًا شديدًا له ولحليفه الرئيس أوباما الذي لم يعد أمامه سوي الاعتماد علي فرنسا التي كانت حتي وقت قريب مترددة في قرار المشاركة إلا ان التصريحات النارية التي أطلقها الرئيس فرنسوا أولاند ووزير الخارجية لوران فابيوس لم تمكنهما من التراجع، بل الهروب علي طريقة المستشارة ميركل وديفيد كاميرون وهو ما يصبغ علي العملية العسكرية المرتقبة هوية أمريكية فرنسية لأول مرة وهو الأمر الذي يهدد تنفيذها بنفس الفاعلية التي كان مخطط لها في الماضي خاصة أن الجميع لمس في كلمة اوباما مساء السبت رغبة في التراجع حاول إخفاءها بطلبه أعضاء الكونجرس منحه التفويض اللازم لشن الهجوم وهو ما اعتبره البعض تسويفًا يعكس حالة الارتباك التي ميزت سلوك الإدارة الأمريكية مؤخرًا... وبإلقاء نظرة سريعة علي تطورات الملف السوري نجد أن الفترة الزمنية بين حادث الغوطة التي قالت عنه أمريكا أن الأسد استخدم فيه الأسلحة الكيميائية ضد شعبه وبين الاستنفار الأمريكي للرد علي الأسد بعملية عسكرية هي فترة زمنية قصيرة جدا وهو ما يطرح علامات استفهام عن الهدف الحقيقي من العملية خاصة أن قرار ضرب سوريا تم اتخاذه قبل انتهاء مفتشي الأممالمتحدة من مهمتهم لاستبيان استخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة من عدمه وأيضًا قبل عقد مؤتمر جنيف 2 الذي وافقت كل الأطراف علي عقده بمن فيهم الحكومة السورية وكل من روسيا والصين والولاياتالمتحدة وألمانيا وأيطاليا وأسبانيا وفرنسا إلا أن التحفظ القطري التركي علي جنيف 2 ساهم في إجهاضه قبل ان يبدأ ودفع باتجاه الهرولة لتوجيه ضربة عسكرية استباقية إلي سوريا.. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه.. ما السبب في هذه الهرولة الأمريكية والسرعة في اتخاذ قرار القصف في وقت لم يتوقع فيه البعض أن تنحي الإدارة الأمريكية هذا المنحي في ظل ظروف دولية وإقليمية أخذت المشهد السوري بعيدا عن بؤرة الأحداث إلا قليلا.. لكن من الممكن إيجاز محددات القرار الأمريكي فيما يلي: أولاً: تمنح الضربة العسكرية الأمريكية لسوريا فرصة لإنقاذ مشروع تفتيت الشرق الاوسط الذي ينفذه تيار الإسلام السياسي وترعاه أمريكا وقطر وتركيا والذي بدأ تفعيله بعد موجات الثورات العربية في اواخر عام 2010 وبداية عام 2011 خاصة بعد أن تصدعت أركانه بفعل ما جري في مصر بعد ثورة 30 يونية وما يجري الآن في تونس من سجالات سياسية بين المعارضة وحركة النهضة ما أسهم في تراجع تيار الإسلام السياسي أمام الضربات الإقليمية التي وجهت لأنصاره في المنطقة فكان مهمًا أن يتم تقديم دعم عسكري للإسلاميين الذين يرفعون السلاح في وجه الدولة السورية لمنح هذا المشروع قُبلة الحياة خاصة بعد أن تسربت أنباء عن تحقيق قوات الأسد تقدما كبيرا علي المعارضة وطردها من اماكن كانت حتي وقت قريب تسيطر عليها ناهيك عن تقارير الخبراء 'خاصة الروس' من ان الأسد قادر علي الصمود اربع أو خمس سنوات مقبلة علي هذا الوضع... ثانيًا: يرغب الرئيس الأمريكي في حفظ ماء وجه بلاده في الداخل والخارج بعد التغييرات السياسية التي جرت في المنطقة والتي اتهم فيها الرئيس بأنه لم يحسن التعامل معها ولم يستغل ثورات الربيع العربي لصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو ما أسهم برأي منافسية الجمهوريين في إضعاف النفوذ الأمريكي في المنطقة خاصة في مصر وتونس واختلاق مشكلات مع دول حليفة مثل السعودية والإمارات يرغب أوباما في استعادة هيبة الحزب الديموقراطي في الداخل وتنفيذ عملية عسكرية محدودة لخلق آليات جديدة علي الأرض تسمح لهذا الحزب بالاستمرار في إحراز التفوق علي الحزب الجمهوري وفي الخارج تساهم هذه الضربة في ترسيخ فكرة استمرار الولاياتالمتحدة في لعب دور العراب الأوحد الذي قد يلجأ إلي القسوة أحيانًا حتي لا يتجرأ أحد من مريديه علي الخروج علي طاعته.. ثالثًا: علي طريقة 'اضرب المربوط يخاف السايب' تعتقد الولاياتالمتحدة أن شن عملية عسكرية ضد سوريا قد يتسبب في التأثير علي وحدة شعب مصر و جيشها وهو ما يؤدي إلي إرباك المشهد المصري تمامًا بعد أن خرج المصريون في 30 يونية وأسقطوا حكم الإخوان المسلمين الحليف الرئيسي لواشنطن، ما تسبب في إحراج الإدارة الأمريكية التي كانت تؤكد في السابق أن دعمها للشعب المصري وليس للإخوان ولأن واشنطن تدرك استحالة توجيه ضربة مماثلة إلي مصر لاعتبارات كثيرة أهمها تلاحم شعب مصر مع جيشه أرادت ان تمارس الإرهاب تجاه مصر ولو من بعيد علي طريقة 'الدور عليكو' علي امل أن يؤدي ذلك إلي إنقاذ قادة الإخوان من الملاحقات القضائية وتعود دماء الحياة السياسية تتدفق من جديد في شرايين الجماعة.. رابعًا: يتعرض الرئيس الأمريكي لضغوط شديدة من كل من قطر وتركيا، فالأخيرة هي التي تتزعم مشروع الشرق الأوسط الجديد وتقوم بتدريب الجيش السوري الحر وتمده بالسلاح وترعي التيارات الاسلامية الحليفة لواشنطن في سوريا وبها مقر المعارضة ولم تخف انقرة تحفظها علي ما يتردد عن أن الضربة العسكرية الأمريكية ستكون في أضيق الحدود فهي ترغب في أن تكون هذه الضربة موسعة يشارك فيها الجميع لإسقاط سوريا وتفتيت هذا البلد والسماح للإسلاميين باعتلاء عرشه...أما قطر ولأنها صاحبة الدعم اللوجيستي للمعارضة السورية ونالها ما نال كل من أمريكا وتركيا بسقوط حكم الاخوان في مصر فهرعت إلي الجامعة العربية لعقد اجتماع وزاري عربي لوزراء الخارجية العرب امس الاحد بدلا من غد الثلاثاء وذلك بهدف توفير غطاء عربي يسمح لأمريكا بضرب سوريا بعد أن تخلي عنها حلفاؤها في أوربا...ولأن الرئيس أوباما لا يريد أن يخسر قطر وتركيا فلا مانع من الاستجابة لرغبتيهما في توجيه ضربة إلي سوريا قد تسهم في فتح ممرات لقوات المعارضة للتقدم وإحراز نصر عسكري علي قوات الأسد وهي الأفكار التي كان وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم بن جبر يحاول تصديرها إلي المجتمع الدولي وتقديم دعم لا محدود للمعارضة السورية.. *** وإلي أن يمنح الكونجرس أوباما قرار التفويض الذي طلبه تبدو الضربة العسكرية الأمريكية الفرنسية لسوريا ضربة 'برتوكولية' قد تسهم في تعطيل تقدم قوات الأسد بعض الوقت لكنها لن تسم في إحداث تغيير علي الأرض لكن الشيء المؤكد أنها ربما تكون مقدمة لضربات مستقبلية أشد قسوة علي غرار ما حدث في العراق قبل عشرة أعوام وسهم في سقوط هذا البلد وتشرذمه.