إن ثقافة الإضرابات والاعتصامات المقرونة بالتجاوزات هي ثقافة ذات طابع عدواني، استجدت علي المجتمع اليوم، مما أفقد الحق في الإضراب المستند لأسس عادلة مشروعيته، وأثار التساؤل حول الأسباب الحقيقية لظاهرة الأزمات المفتعلة المتولدة عنها. غير أن المستقرئ لهذه الظاهرة يكتشف أن استغلال غياب ثقافة القانون لدي العامة والتحدث علي الملأ عن أمور مغلوطة يؤدي إلي طمس معالم الحقيقة في ظل صيحات الاحتجاج وارتفاع نبرة التهديدات بتصعيد غير مبرر قانونا، رغم أن العجز في حل أي مشكلة يجعل من اللجوء إلي القانون أمرا حتميا لايقبل الجدل، وإلا فالعودة لشريعة الغاب وانتشار الفوضي، وهو ما يعطي انطباعا سلبيا بصعوبة الوصول إلي حل لتلك الأزمات المفتعلة. وأولي هذه الأزمات هو الأزمة الحالية المفتعلة من نقابة المحامين إزاء السلطة القضائية، فكم من احتكاكات وتجاوزات تحدث يوميا أثناء سير العمل في ساحات العدالة وينتهي أمرها دائما إما بالتصالح والتنازل قبل إتخاذ أي إجراء، أوبإحالة الأمر إلي جهات التحقيق والقضاء في حالة عدم الوصول لحل، كي تأخذ العدالة مجراها الطبيعي، غير أن الأمر اختلف هذه المرة وأسفر عن موقفين متناقضين عقب صدور حكم قضائي قابل للطعن في حادث فردي. " الموقف الأول" من أحد المحامين الذي شكك في أحكام القضاء علنا وعلي الملأ في الفضائيات وقذف في حق رجال القضاء والنيابة جميعا بعبارات يعاقب عليها القانون، وسعي لإثارة الفتنة وبث الدعايات المثيرة بين جموع المحامين وتحريضهم علي أفعال يعاقب عليها القانون،وتزامن ذلك منذ البداية مع وقوع تجاوزات من بعض المحامين وصلت إلي حد ارتكاب أفعال تثير شبهة جرائم خطيرة كاقتحام المباني الحكومية وإتلاف بعض أثاثات مقارها، ومنع بعض رجال القضاء من الوصول إلي مقار محاكمهم،وبدلا من سعي المسئولين عن نقابة المحامين إلي احتواء الموقف وتهدئة الأمور، فوجئنا بهم يهددون بالتصعيد دون بيان سبب جوهري لكل هذه الثورة والتجاوزات، سوي الحديث عن أنها رد فعل لتراكمات سابقة، ثم المطالبة بعد ذلك بحصانة أسوة بالحصانة القضائية حلا للأزمة. " الموقف الثاني " المناقض تماما لموقف المحامين هو موقف القضاة الذين تعرضوا للإهانة علي الملأ في الفضائيات، واقتصرت مطالبهم علي تطبيق أحكام القانون علي الجميع. وإذ كان الإلتزام بالقانون هو الحل الأمثل لهذه الأزمة، فإن إعمال مقتضاه يستلزم بيان الأمور التالية: أولا : إن الحديث للقنوات الفضائية عن إجراءات تتم في دعوي مطروحة علي القضاء وانتقاد مثل هذه الإجراءات وإبداء آراء شخصية فيها، هي استمرار لبدعة دأبت القنوات الفضائية علي السير فيها واستمرأتها وهي بدعة التعليق علي الأحكام القضائية أو نقل ما يدور في الجلسات وأروقة المحاكم، وظهور بعض المحامين متولين الدفاع في بعض القضايا للحديث عن تفصيلات تلك القضايا الموكلين فيها وآرائهم الشخصية لصالح موكليهم أو ضد خصومهم وفي الإجراءات التي إتخذتها المحكمة أثناء سير الدعاوي، مع أن المادة 70 من قانون المحاماة تحظر علي المحامي تلك الأفعال فضلا عن النصوص التي تجرمها في قانون العقوبات، وتعتبر تلك الأمور تدخلا سافرا في شئون العدالة ومن شأنها التأثير في الرأي العام لمصلحة طرف في الدعوي أو التحريض ضده، وقد تم تناول القضية الفردية الأخيرة بذات النهج في القنوات الفضائية المختلفة، مما يستلزم إعمال نصوص القانون في هذا الشأن. ثانيا : إن مطالبة البعض بحصانة للمحامين أسوة بالحصانة القضائية باعتبار أنهم شركاء في إرساء العدالة، هو مطلب متكرر لجهات أخري كالعاملين بمصلحة الخبراء وموثقي الشهر العقاري وكانت وسيلتهم في ذلك الاعتصامات والاحتجاجات ولم يتم اللجوء إلي الطريق السليم للمطالبة بهذا الطلب إن كان يستند لأساس قانوني، مع أن الجميع طبقا للقانون وأولهم السادة المحامون هم أعوان القضاء بنص المادة 131 من قانون السلطة القضائية التي غاب عن الجميع الرجوع إليها، فالقاضي لاشريك له أو سلطان عليه إلا للقانون وضميره طبقا للمادتين 165 و166 من الدستور( مصدر كل القوانين بالدولة) وقد ورد النص بالمادة الأخيرة علي أن القضاة مستقلون لاسلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولايجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة، وليس في هذا تقليل من شأن أي فئة من الفئات السابقة، وإنما لكل مجاله الذي يجب تحديد إطاره في خدمة العدالة التي هي رائد الجميع، ثم إن الحصانة القضائية التي يتحدثون عنها هي مجرد قيود إجرائية لضمان أداء القضاة لرسالتهم في استقلال نحو تحقيق عدالة أفضل ولعلة ارتآها المشرع لامجال للخوض فيها الآن، وهناك من الهيئات القضائية التي تؤدي عملها في حيدة واستقلال دون حصانة قضائية كالنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة فلا يتمتعون في ذلك سوي بضمانة إجرائية كالضمانة المقررة للمحامين في قانون المحاماة وتمنع من اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق مع أي من أعضائها إلا بإذن من النائب العام أو من يقوم مقامه، ولم يطلب أي من هؤلاء الأعضاء هذه الحصانة لعلمهم التام أنها لاتمنع مساءلة أي فرد حينما يتجاوز في أداء عمله أو سلوكه ولاتعصمه من الخضوع لأحكام القانون ومحاسبته، والمبرر الذي يسوقه المطالب بهذه الحصانة من أن المحامين شركاء للسلطة القضائية في إرساء العدالة طبقا للمادة الأولي من قانون المحاماة يدحضه أن الشعب المصري بجميع طوائفه بنص المادة 170 من الدستور يسهم في إقامة العدالة بإلتزام أحكام القانون، فهل طالب أي من أفراده بمثل هذه الحصانة حتي تتحقق العدالة؟!وإذا كانت المشاركة بين المحاماة والسلطة القضائية في إرساء العدالة هي الهدف المبتغي للجميع فلم لا تتم المطالبة بتعديل قانون المحاماة وإضافة بعض الضوابط الواجب مراعاتها بالنسبة لمن يعمل بمهنة المحاماة وهي مهنة جليلة ذات رسالة سامية، أسوة بالتعديلات الأخيرة التي تمت بقانون السلطة القضائية واشترطت فيمن يعين بالنيابة ألا يقل تقديره عن جيد تراكمي في ليسانس الحقوق بالإضافة للضوابط الأخري بدلا من التعلل دائما بعدم إمكانية السيطرة علي جموع المحامين الكبيرة التي بلغت أربعمائة وخمسين ألف محام. ثالثا : إن القول بأن ما يحدث الآن من تصعيد للأمور من جانب السادة المحامين هو رد فعل لتراكمات سابقة، هو قول عام لايتضمن وقائع محددة وهي بحسب ما جاء بالقنوات الفضائية علي لسان البعض من السادة المحامين لاتخرج عن كونها أخطاء إدارية إن كانت ويمكن اللجوء للرئاسات الإدارية المباشرة لأعضاء النيابة لتلافي تلك الأخطاء وكفالة عدم تكرارها، فلا أحد يقبل التجاوز وليس هناك من هو فوق القانون أو لايخضع للمحاسبة كائنا من كان. إن ما يحدث الآن من بعض المحامين لم يحدث من قبل في تاريخ المحاكم المصرية ولم يحدث في أي دولة أخري في العالم، سواء من دول العالم الأول أو حتي الثالث، والحل الأمثل لهذه المشكلة هو الالتزام بأحكام القانون والانصياع لأوامره من الجميع، هذا إن كنا نعمل جميعا لخدمة العدالة والوطن، وليس من مصلحة أي طرف الاستهانة بهيبة القضاء التي هي من هيبة الدولة والقانون، فالقضاء هو صمام الأمن الأخير والحصن المنيع لهذا الوطن العزيز، وللحديث بقية.