منذ سنوات طوال تحرص مصر علي التفاعل مع الاشقاء الأفارقة من خلال معهد عريق بين جنبات جامعة القاهرة، وكان بالمعهد - ومازال - اساتذته الكبار وباحثوه الافذاذ الذين يؤرخون للعلاقات المصرية الإفريقية علي المستوي اللغوي والديني والفكري والوجداني من واقع التقارب الجغرافي والتاريخي بكل ما يستحقه عبر الدراسات والبحوث الأفريقية. وقد كان اسم هذا المعهد مصدر إعزاز لنا حين نتحدث عن الدور المصري في الثقافة الإفريقية مما استشعرت منه ملمحاً في فترة عملي مستشاراً لمصر في ليبيا، وفي مساق بناء جسور التعاون بين مركز جهاد الليبيين هناك وبين ذلك المعهد المتخصص في إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه في الدراسات الإفريقية .. صحيح أن جامعة القاهرة تتمتع بمراكز بحثية واستشارية أخري حول الدراسات الآسيوية والماليزية ولكن تجربة المعهد تظل أقدم وأعرق بكثير بما يعكس الدور المصري المبكر في تأصيل العلاقات مع افريقيا. وفي العام الماضي - فقط - وفي اجتماع موسع للمستشارين الثقافيين قدمت اقتراحاً أعتقد أنه لاقي قبولا - وقتئذ - بشأن إنشاء مراكز ثقافية لمصر في دول حوض النيل انطلاقاً من أمرين مهمين. الاول:أهمية المكاتب الثقافية في تحقيق رسالتها وأهدافها من تعميق العلاقات وبناء الجسور الفكرية بين مصر ودول المقر، وهو ما تستحقه دول حوض النيل من واقع المصالح المشتركة بين شعوبها وحاجتها الحقيقية الي الريادة المصرية بكل صورها. الثاني: أن لمصر علاقات تاريخية راسخة بالفعل في إفريقيا بدليل دراستنا للغة الحبشية في قسم اللغات الشرقية بجامعة القاهرة إلي جانب اللغات الأخري مثل الهاوسا والسواحيلية وغيرها سواء منها اللغات التاريخية أو الحية المتداولة. فإذا كانت لهذه اللغات ارصدة في الدراسات الجامعية فمن الأولي أن تراجع جذور تلك العلاقات، وأن تتوطد قسماتها وملامحها بين ابناء مصر وأن نلتفت كثيراً إلي افريقيا ثقافيا وفكريا من باب تأسيس برامج ثقافية أو إبداعية وتبادل شبابي رياضي إلي غير ذلك مما يحدث بين الشعوب فيذيب ما بينها من تفاوت مؤقت يكون سببه في - الاعم الأغلب - الانشغال بالهموم المجتمعية أو غياب الاهتمام الذي يشعر الآخر بأهمية ذلك التواصل والتلاقي لاسيما مع مصر بكل تاريخها العظيم الذي طالما أسس له بناة الحضارة منذ هبط الإنسان القديم من الهضبة إلي الوادي ليصنع حضارة آلاف الأعوام علي ضفاف نهر النيل الخالد الذي أنطق هيرو معدت بأن مصر هبة النيل. لعل تأمل الظاهرة الإفريقية، ولعل تحويل مؤتمراتها وندواتها وتوصياتها ونتائجها إلي برامج عمل ومشروعات تعاون خلاق مع محاولة إنشاء روابط افريقية وجمعيات صداقة وأخوة تقوم علي تفعيلها مكاتب ثقافية أمر يبدو مهما للغاية في إعادة صياغة مجموعة العلاقات العربية الافريقية التي تحرص مصر دائماً علي دور الرائد فيها بحكم قدرها وقدرها بأن تظل الأنظار موجهة إليها إلي حيث يكون التقدم والتواصل والنماء. ولعل المرحلة تتطلب الكثير من عطاء المعهد العالي للدراسات والبحوث الافريقية في صناعة انماط وبرامج للتبادل العلمي والبحثي مع دول حوض النيل وأحسبه مستعدا لانجاز مثل هذه المهام ضمن رسالته البحثية والوطنية علي السواء.. ومع المعهد يمكن أن تلعب المراكز الثقافية - إذا ما وجدت - دوراً ملموحاً في صناعة مجالات التعاون والتكامل مع القارة السمراء التي تزال تبشر بخير كثير في المستقبل علي النحو الذي يطرحه المتخصصون وذوو الخبرة في بحوثهم ومؤلفاتهم حول الواقع والمستقبل في القارة الإفريقية حتي لا تتحول إلي ساحة للصراع يستغلها بعض هواة الطغيان والتنغيص علي الشعوب التي يمكنها أن تعيش في سلام وتصالح ثقافي ووجداني يظل مدخلا للتقدم والرخاء.