وإن تعجب فعجبٌ قولهم إنها حدث عابر بسيط يمر كما مر غيره من الأحداث العجاب التي لم نجد لها تفسيراً حتي الآن، واتخذت لنفسها إهاباً من الغموض والألغاز ليحير الناس أكثر مما هم فيه من حيرة وتيه، فكيف بالله تحول كل هذا الحماس وتبادل الاتهام مع الإدارة الأمريكية إلي هذا الصمت الرهيب من جانبنا الرسمي، وإلي هذا الشكر والرضا من الجانب الأمريكي الموازي للجانب الرسمي حول عمل يراه الأمريكان طيباً محققاً لرغبتهم، وليس من شك أن الشعب المصري رأه طعنة أخري في قلب الثورة من طعنات الولاياتالمتحدة وإسرائيلها. لقد نفذ الأمر وتحولت قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني إلي جراح وآلام يجترها شعب مصر الصبور، ويشرب أساها لأنه لم يكن يعلم علم اليقين لماذا تفجرت هذه القضية في بادئ الأمر ولماذا ذهبت إلي ساحة القضاء ولما تم إقامة مؤتمر صحفي لقضاة التحقيق فيها يذيعون علي الملأ المحير أسباب التقديم إلي المحاكمة، فهل لكل قضية شبيهة تقام مثل هذه المؤتمرات؟ هكذا تساءل الناس الحائرون، أبسطهم فهماً، قال: سنري ومن يعش فسوف يري. ولما أخذتنا العزة، وانفجرت في أعماقنا نوبات الكرامة من جديد، وأكد أصحاب الترويج الإعلامي في برامج أعدوها إعداداً، وحشدوا لها الطوافين بين استديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي حشداً غير مسبوق، أكدوا أن العين بالعين والسن بالسن ولسنا في حاجة إلي المعونة تلك التي يكسرون بها قلوبنا وانطلقت المبادرات التي تسيل بالكلام المنمق المعسول والمحشو بشتي صنوف البلاغة والفخامة، وعادت لنا الكرامة المهدرة بالكلام. كل هذا كان يجري، والشارع المصري يغلي من الغضب ويعاود الاحتقان من جديد، فنار موقعة بورسعيد هدأت ولجنة تقصي الحقائق سكتت بعد أن أودعت تقريرها المصون، وخيم علي الجميع في المجلس الموقر هدوء وسكينة، في حين أن الناس تمشي علي الأرض غير مطمئنة، وبدأ حجم الضربات لهم يزيد يوماً وراء يوم، لا أمان ولا أمن يبدو من بين الملايين السادرة، هل نحن نعيش حقاً ثورة علي الفساد والظلم والطغيان، أم أن الثورة غابت كما تغيب شمس الضحي وخرج علينا خفافيش الظلام يلطمون وجوهنا من كل جانب، هذا هو حال المصريين تحت قيادة المجلس العسكري وحكومة الإنقاذ المزعومة والمجلس الموقر الذي أفضي به الشعب إلي ربه لعله يقيم المعوج ويصلح البال. كان حال الشارع يصرخ ويئن ويستغيث بالشرفاء أن يمسكوا دماءنا النازفة وينقذوا أرواح أبنائنا الزاهقة يوماً بعد يوم بغير توقف، فلما قامت الغيرة علي مصر ورأينا موقفاً يشعل في صدورنا العزة والكرامة من جديد، قلنا نصبر، ولا يمس كرامتنا أمريكي أو صهيوني، قلنا نساند مجلسنا العسكري للنهاية حتي تتحقق دولة الديمقراطية المنشودة، ومصر الحديثة التي نرجوها لأجيالنا المقبلة، لكن الذي شاهدتموه وسمعتموه لم يدع لنا فسحة من الأيام حتي نرتوي من بعض كلمات العزة وبعض قبس من إحساس بالكرامة، كل شيء ذهب في لحظة كما تبددت آمالنا منذ عام حين كانت تحلق في سماء الكرامة وتبدو لنا كأننا نعيش خيالها المزهو بنا، هذان المشهدان ينمان عن كثير من الريبة والإحباط يدور حولها ليفتك بآخر خيوط الأمل لدينا، فلماذا ارتقينا سنام العزة في لحظة، ثم عدنا فنكصنا، وانقلبنا علي أعقابنا، إن من حق الشعب المصري في هذه الأزمة أن يعرف أدق التفاصيل عن كل ما يجري له وكل ما تحمله له الريح المتربصة من كل مكان. نحن نحتاج إلي من يعلمنا صراحة لماذا تم فض هذه القضية في لحظات، وهل المقابل لإطلاق سراح المتهمين الأجانب سيعود الأمن للمصريين، وتعود الأموال المنهوبة المهربة، وهل سنترك للشعب أن يحدد مصيره بكل حرية دون وصاية من أحد مهما كان ومهما ادعي من أدوار في الثورة، وهل سنتعلم الدرس الأكبر لنعيد للقضاء هيبته واستقلاله؟ إن هذه هي الثورة القادمة. رسالة إلي قضاة مصر الشرفاء الملايين من أبناء الشعب يثقون في تاريخ القضاء المصري ويعلمون أن حقوقهم السليبة أمانة بين أيديكم، وإنكم في حومة هذه الفتنة الكبري لن تنسوا قضاياهم المؤجلة من سنين، وهم لا يريدون إلا النظرة لأحوالهم المتردية ويسألونكم أن تعينوهم علي الظلمة واللصوص والخارجين علي القانون بأن تسارعوا مهما كان الثمن بالفصل في قضاياهم الساكنة علي أرفف المحاكم ولا تنسوا تنفيذ الأحكام.