بدا الرئيس التونسي واثقا، بسيطا، قال إنهم انتهوا من الخطوات السياسية، والآن يتم التركيز علي الاقتصاد شئت أم لم أشأ، هذا ما سيطر علي تفكيري ورؤيتي منذ وصولي إلي مطار تونس الخضراء كما تعرف في الخيال الشعبي المصري، وفي السيرة الهلالية الملحمة التي ماتزال تروي في صعيدنا، وحفظها الخال عبدالرحمن من الضياع، وهو الخبير في تراث تونس والمعروف بين أهلها، والسبب عشقه للهلالية. قصدت تونس عدة مرات منذ عام خمسة وثمانين في القرن الماضي. كان المطار أحد الأسباب التي تجعلني أتردد في تلبية العديد من الدعوات التي تلقيتها للمناخ البوليسي الذي يسوده رغم أنه بلد سياحي في المقام الأول، لا أذكر أنني عرفت مطارا مثله حتي في البلدان الاشتراكية المتشددة، كان جهاز الأمن التونسي من أقوي الأجهزة البوليسية العربية وأكثرها ذكاء أيضا، رغم ذلك لم يمنع هذا اندلاع الثورة الجارفة، آخر مرة زرت فيها تونس جئت إليها بحرا علي ظهر سفينة فرنسية أقلعت من مالطا ضمن مشروع ثقافي محوره اقتفاء أثر عوليس بطل الأوديسة اليونانية الشهيرة، شارك فيه عدد من الأدباء العرب والفرنسيين، نزلنا في ميناء حلق الواد، وتصادف أنه كان يوم الانتخابات الرئاسية، صور ضخمة للرئيس بن علي وقتئذ كان يشبه مبارك في البنية وملامح الوجه وصبغة الشعر الفاحمة، يحيط عنقه بكوفية حمراء، ويضم قبضة يده أمام صدره، تحت الصور عبارة »معا من أجل التحديات« ولم يكن واضحا طبيعة هذه التحديات، إلي جواره صور المنافسين، ثلاثة لا أذكر أسماءهم، صورهم أقل حجما، وضعت بحيث يتطلع كل منهم إلي زين العابدين، وخيل إليّ ان رعبا يسكن عيونه. كان ذلك عام ألفين وتسعة. مطار آخر كأنني أنزل مطارا آخرا، أجيئ إليه أول مرة، بعد انزياح ظل الدكتاتور عن البلد وزوجته، لم أر أي صورة للرئيس الحالي الدكتور منصف المرزوقي وهو صديق عزيز التقيته مرارا في أوروبا خلال إقامته القسرية ونضاله ضد الدكتاتورية، أستاذ أكاديمي مرموق، وأديب مبدع، في آخر لقاء لنا أهداني رواية من خمسة أجزاء »الرحلة« عمل يجمع بين الفلسفة والأدب، عند وصولي كان في رحلة إلي أقطار المغرب العربي المجاورة، عاد صباح يوم سفري والتقيته قبل توجهي إلي المطار للعودة إلي القاهرة. لم أر في المطار أي صورة للرئيس الحالي، ليس في المطار فقط، إنما في جميع المدن التونسية التي زرتها خلال زيارتي التي استغرقت أسبوعا كان الهدف الأساسي منها تقديم واجب العزاء، والمشاركة في تأبين مناضل تونسي وأديب من جيل الرواد ربطتني به وبابنه وأسرته علاقة حميمة، شاركت في حفل التأبين بقابس في الجنوب، وقصدت مدينة توزر المرقد الأدبي لشاعر تونس الأشهر أبوالقاسم الشابي، كذلك مدينة سوسة التي أقام فيها اتحاد الكتاب حفلا وندوة لتكريمي منذ عشر سنوات، طوال هذه الجولة التي زرت خلالها مدينة محمد أبوعزيزي الذي كان إحراقه لنفسه بداية الشرارة التي أشعلت الثورة، طوال هذه الرحلة الطويلة لم أر صورة واحدة لرئيس تونس، لا في المصالح الرسمية ولا الشوارع أو المقاهي، ولا في الصفحات الأولي للصحف، أقول ذلك بمناسبة انتشار آلاف الصور في القاهرة لأحد المرشحين المحتملين في انتخابات الرئاسة، يطالعنا خلالها بوضع رئاسي قبل أن يصبح رئيسا، والوضع مباركي، نفس الزاوية والنظرة، ربما لم يقصد المرشح، لكنه العمل مع الرئيس السابق سنوات طويلة مما يجعله مرجعية له، ما يجب أن نتخلي عنه ونتخلص منه هذه الصورة الرئاسية، الهدف منها أن يكون الرئيس محملقا إليك طوال اليوم وعند النوم أيضا فسوف تذكرها شئت أم لم تشأ، وقد بدأت الصورة الرئاسية مع جوبلز وزير إعلام هتلر الذي كان يري ضرورة حضور الزعيم في كل وقت علي مر اليوم كله من خلال الصورة، واستخدم الأديب الإنجليزي جورج أورويل ذلك ببراعة في روايته الجميلة »العالم 4891«، حيث يطالع الأخ الأكبر مواطنيه من كل الزوايا، تخلصت تونس من الصور الرئاسية، أما نحن فمازلنا، بعض صور مبارك منسية في مخازن المصالح الحكومية، والمرشح المحتمل يسد الفراغ بصوره الكاريزمية اقتداء برئيسه السابق وكأن شيئا لم يتغير. بدا المطار مبهجا، زحام من كل الأجناس، بدأت السياحة تعود إلي تونس، استفسرت من رجال أعمال ومسئولين رسميين، نسبة الاشغال الآن تتجاوز السبعين في المائة، عرفت تونس المشاكل الأمنية عقب هروب بن علي وزوجته المتنفذة، غير أن الشرطة استعادت زمامها بسرعة، الحضور الأمني واضح جدا في الطرقات والمدن. لم أر إلا تجمعات من أربعة أو خمسة مزودين بأحداث الأسلحة، الشرطي له هيبة، في أثناء عودتنا ليلا ضل الصديق فيصل مرزوق طريقه إلي الفندق، توقف إلي جانب شرطيين عند أحد النواصي، سأل عن الطريق، طلب أحدهما بطاقة التعريف أولا، بهدوء قدمها إليه، وبعد تمعن فيها أعادها إليه، وبدأ يدل فيصل علي الطريق، الطريف أننا كنا عائدين من دعوة عشاء في بيت صديقنا سي المنجي الوكيل، أحد أهم الشخصيات الاقتصادية في تونس، وكان بين ضيوفه جنرال يحتل موقعا مهما في قمة الجهاز الأمني، لم يذكر فيصل أي شيء عنه، ولم يتساءل »أنت مش عارف أنا مين؟« ولم يحاول الاتصال بأحد معارفه في الأمن، القانون مطبق علي الجميع. المجتمع المدني سألت مسئولا كبيرا في الأمن، هل خرج الرئيس السابق هاربا يهيم علي وجهه في الجو ليلا كما تابعنا علي شاشات الفضائيات؟ أم أن موضوع لجوئه إلي السعودية كان مرتبا من قبل. قال باختصار حازم: لا.. كل شيء كان مرتبا بدقة؟ ماذا عن دور الجيش؟ هنا لابد من العودة إلي أسس المجتمع التي أرساها الحبيب بورقيبة، وهي أسس علمانية، مستوحاة من النظم الغربية، وتتضمن خطوات جريئة منها ما يتصل بقانون الأحوال الشخصية الذي لا يسمح للرجل إلا بالزواج من امرأة واحدة، أيضا اقصاء الجيش عن التدخل في الشئون الداخلية، فقط مهام الدفاع عن الحدود الوطنية بشكل رئيسي، وعندما اندلعت ثورة يناير ضد زين العابدين، اتخذ الجيش موقفا إلي جانب الثورة، وجه رئيس الأركان الجنرال عمار انذارا إلي بن علي بضرورة مغادرة السلطة، وقال له صراحة ان الجيش لا يستطيع حمايته من غضب الشعب. أسأل الصحفي والأديب نورالدين بالطيب بجريدة الشروق التونسية: »كم استمر الجيش في السلطة..«؟ أشار بأصابع يده. »أربع ساعات، انها المدة التي جري خلالها إغلاق المجال الجوي، فيما بعد أشرف علي أمن الانتخابات دون تدخل، إذا جرت محاولة حرق منشأة أو مصنع يتدخل إذا جري الاستنجاد به، أما إذا جري اعتصام من الجماهير فلا يتدخل علي الاطلاق«.. يؤكد الأصدقاء الذين تحدثت إليهم من مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية، أن الجيش التونسي يتمتع بشعبية عالية، وأن الرغبة العارمة لدي الشعب أثناء وبعد الثورة كانت تتلخص في تسلمه مقاليد البلاد، ولكن رئيس الأركان الجنرال عمار، وقادة الجيش رفضوا تماما واكتفوا بأداء الأدوار التي تحتمها الضرورة الأمنية إلي أن تسلمت الشرطة مقاليد الأمن الداخلي تماما، الجيش التونسي تاريخه وطني، وزير الدفاع مستقل لا ينتمي إلي أي حزب، شارك في معارك فلسطين، وخلال حرب الاستنزاف كان في الجبهة المصرية كتيبة تونسية، قمت بزيارتها وإعداد تحقيق صحفي للأخبار عنها، وكان ذلك عام 0791، وكانت مكلفة بمهام محددة من القيادة المصرية، الجيش التونسي عدده لا يتجاوز الستين ألفا، ولكنه مهاب وفعال، وخلال جولتي بأربع مدن رئيسية وإقامتي فيها لاحظت انه من النادر وجود أفراده في الشارع، حتي رئاسة الجمهورية يتولي حمايتها أفراد يرتدون الزي الرسمي للشرطة. سلكت تونس الطريق الصحيح، بدأت بإعداد الدستور، ثم الانتخابات التي حقق حزب النهضة (الإسلامي) من خلالها أغلبية، وجري التوافق علي انتخاب رئيس مؤقت، وتم اختيار مفكر وأديب، وهذا اختيار له دلالة، ويتولي إلي أن تسمح الظروف وتنضج لانتخابات رئاسية دائمة، ان تعبير (التوافقي) الذي أصبح مثار السخرية في مصر تم تنفيذه بنجاح تام في تونس رغم اقرار الدستور الدائم، وتبدو مصر أشد حاجة إلي رئيس مؤقت حتي يتم اقرار دستور جديد دائم ينص علي سلطات الرئيس الجديد، أما اجراء انتخابات رئاسية قبل وضع دستور متكامل فهو ابحار في المجهول، لأن الرئيس الذي سوف يتم انتخابه سوف يحكم وفقا للسلطات الرئاسية التي كانت ممنوحة لمبارك، وهي سلطات مطلقة سوف تأتي بدكتاتور جديد أشد دهاء، وأكثر سطوة، وأتقن في النهب لأنه سوف يتفادي ما قام به الرئيس السابق وأسرته من أساليب مفضوحة الآن في تكوين الثروة الهائلة. كنت أصغي إلي ما أسمعه في تونس من أجوبة، وأتحسر علي أحوالنا، وأتمني وجود مراسلين في العواصم الحساسة للإعلام المرئي والمسموع لإطلاعنا علي ما يجري هناك بدقة، إن استلهام التجربة التونسية كان كفيلا بتجنب أخطاء عديدة وقعت في مصر وحقن دماء غزيرة سالت. في القصر الرئاسي ما إن عاد الرئيس منصف المرزوقي من رحلته المغربية (شملت الجزائر، المغرب، موريتانيا)، حتي اتصل مكتبه بصديقي فيصل مرزوق ليخبره ان الرئيس في انتظاري، وعندما أخبرهم بموعد سفري تم تقديم الموعد، الحادية عشرة صباح الثلاثاء في قصر قرطاج، أي قبل اقلاع الطائرة المصرية إلي القاهرة بثلاث ساعات فقط. يقع قصر قرطاج قرب المطار، مررت به خلال المرات السابقة، لم أعرف منه إلا أسوارها لتي تنبئ بمساحته الضخمة، هذه المرة قصدنا الباب المخصص للضيوف، إلي جواره مكتب علقت عليه لافتة كبيرة، »هنا شكاوي المواطنين«. فقط مجرد اتصال من المكتب الأمامي بالداخل نسمح لنا باجتياز البوابة إلي الداخل، عدد الأفراد قلائل، الاجراءات بسيطة لكنها حازمة، نزلنا من سيارة الصديق فيصل نستقل سيارة أخري تابعة للقصر، اجتازت عدة ساحات محاطة بأقواس علي الطراز الأندلسي، انتهينا إلي مبني تتخلله قاعات أندلسية، لفت نظري الزخرفة الجميلة للأسقف والتي تذكرني بخشب مراكش الملون، لكن للألوان هنا شخصية خاصة، المكان أنيق جدا يجمع بين الأصالة العربية والحداثة، بعض الأجانب ينتظرون في الصالة، إلا أن أحد الموظفين الكبار تقدم ليدعونا إلي الدخول مباشرة. يقف الرئيس منصف المرزوقي في منتصف حجرة صغيرة أنيقة ، يتصدرها مكتب مثقل بالأوراق، إلي جواره مكتب أصغر فوقه جهاز الحاسب الآلي، دعانا إلي ركن في الغرفة يضم مقعدين وأريكة، أول ما بادرني به سؤال حول آخر مرة التقينا؟ أجبته: في كوبنهاجن.. أثناء انعقاد مؤتمر نادي القلم الدولي، جري حوار خاص، حول ظروف زيارتي للمشاركة في تأبين المناضل التونسي حسن مرزوق، الذي مشي علي قدميه للمشاركة في حرب فلسطين 8491، وعن الأحوال في مصر، وتناول الأحوال في تونس، تحدث عن الجهود التي تلت الثورة، قال انهم فرغوا من ترتيب الأوضاع السياسية (انتخاب البرلمان، تعيين رئيس الحكومة، انتخاب رئيس للبلاد) ويجري ترتيب الأوضاع الاقتصادية، توفير الأمن علي رأس الأولويات، ايجاد فرص عمل لتخفيف حدة البطالة، السياحة بدأت تعود إلي معدلاتها، النسب مرضية لكنهم يطمحون إلي المزيد. كان يتحدث بثقة وبساطة، لم يكن يرتدي رباط عنق، ولم أشعر أنني أمام شخص اختلف كثيرا عما عرفته، وطوال الطريق إلي المطار كنت أفكر في تلخيص الوضع، ترتيب الأوضاع سياسيا الأول، ثم الاقتصاد. من ديوان الشعر العربي يقين إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين، أطلت همسي أبو العلاء المعري