قبل يناير من عامي 2011 و2012 بسنين طويلة كتب منظرون ماركسيون وتحدثوا عن "العسكرتاريا"، وقصدوا بها تولي الضباط حكم المجتمعات ومنها حكم المجتمع المصري بعد يوليو 1952 وفي زمن متقارب كان الإعلام الغربي الرأسمالي المناوئ للماركسية بالطبع يتحدث عن الحكم في مصر واصفا إياه بحكم "الكولونيلات" نسبة إلي رتبة الكولونيل أي البكباشي أو المقدم، وهي الرتبة التي كان يحملها جمال عبدالناصر عند قيام الثورة!. وكان في خلفية الطرفين رغم تناقضهما ربط بين استيلاء العسكريين علي الحكم وبين الاستبداد. فالماركسيون ينظرون إلي الدولة البرجوازية والرأسمالية باعتبارها جهاز قمع طبقيا، يقمع الطبقات الدنيا لحساب الطبقة العليا، ولذا كان جزء من رؤيتهم التاريخية المستقبلية حتمية فناء الدولة. أما الرأسماليون فيرون أن كل حكم عسكري هو تكرار لتجارب منطقة أمريكا اللاتينية التي سادت فيها الانقلابات العسكرية، وأصبح هناك ما يعرف بجنرالات جمهوريات الموز التي اتسمت بشيوع أبشع أنواع الاستبداد المقترن بالفساد الممزوج بالتبعية والعمالة للخارج، وخاصة لأجهزة المخابرات الأمريكية! وعند هؤلاء وأولئك لم يتم الالتفات إلي ضرورة دراسة وضع مصر كدولة مركزية قديمة وراسخة، وكيف أن هذه الدولة نشأت لأجل وظيفة غاية في الأهمية هي الحفاظ علي وجود المجتمع الذي يرتبط وجوده بنهر جبار في فيضانه وقاتل في قحطه ويحيط بواديه ودلتاه محيط صحراوي بالغ الاتساع والضراوة، ويحتاج هذا المجتمع لإفراز قوة تنظم حركة الناس من حول النهر وتحمي الناس والنهر من الهجوم القادم من قحط الصحراوات ومن وراء أمواج البحر! لذلك تم تعديل الرؤية الماركسية وصار الحديث عن نمط آخر للإنتاج وتم استثناء الجيش المصري من أن يكون جزءا من النمط "العسكرتاري" إياه! ثم إن الجيش المصري بنشأته وتكوينه ومساره لم يكن يوما مماثلا لجيوش جمهوريات الموز إياها، وأثبتت ثورة يوليو أنها أبعد ما تكون عن العمالة والتبعية وأيضا عن الفساد، أما الاستبداد ففيه أقوال وليس قولان فقط. السؤال الآن: لماذا يرتفع نداء إسقاط حكم العسكر، وهل من وراء ذلك تأسيس نظري يستند إلي حكاية "العسكرتاريا" الماركسية و"الكولونيلات" الرأسمالية؟ الإجابة عندي هي أنه ربما كان من وراء انطلاق هذا النداء تنظيرة ماركسية ثورية، وأيضا خشية ليبرالية من استمراء المجلس العسكري للحكم والبقاء فيه، وهذا أمر لا اعتراض لي عليه، بل وأزيد فأقول إن هناك مفارقة مثيرة للتأمل والتفكير وتتمثل في أن الذين يصرخون بسقوط حكم العسكر كانوا، أو كان كثيرون بينهم، يحملون صور جمال عبدالناصر ويرفعونها عالية علي صدورهم أو بأيديهم! وتفسيري لذلك أن الناس تريد توصيل رسالة فحواها أنه ليس كل من لبس الكاكي والكاب جمال عبدالناصر، وأن هذا العسكري الذي قاد ثورة 1952 ومعه عديدون من زملائه كانوا أبناء الحركة الوطنية المصرية، وشاركوا في تفاعلاتها السياسية في الثلاثينيات ووجدوا أن دخول الجيش هو السبيل الأكثر مواءمة لإحداث التغيير السياسي في مصر وهو أمر أضاف إليه عبدالناصر التغيير الاجتماعي الجذري.. فعبدالناصر عند من رفعوا صوره وهم يرفضون استمرار وجود المجلس العسكري في السلطة هو رمز للتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي الجذري، بينما تبدو الأمور وكأن المجلس العسكري الموجود لم يسع إلي تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية جذرية علي غرار الإصلاح الزراعي والتصنيع وغيره. إن الوعي الجمعي لا يمكن أن يكون زائفا ولو أن المجلس العسكري، رغم أنه لا يزعم ولا يريد أن يستمر في تصدر المشهد السياسي، قام ببعض الإجراءات الجذرية لكان النداء مختلفا ولبقي النداء الأصلي مستمرا وهو "الجيش والشعب إيد واحدة".