في مقالنا السابق 21/6/2011 المنشور بهذه الصفحة، عرضنا مختصراً لملامح أكثر النظريات شهرة في تفسير التاريخ، وكانت تباعا ً: نظرية التدخل الإلهي، فنظرية المؤامرة التاريخية، ثم المادية التاريخية . فأما الأولي فيتبناها في بلادنا أصحاب الأيديولوجيات الدينية وفي مقدمتهم جماعة الاخوان فتراهم يقيمون علاقة "تلازم في الوقوع" بين تعرضهم للاضطهاد وهزائم الوطن، قائلين إنه بعد كل تنكيل بالإخوان كان الانتقام الإلهي شاملا وعامّا، فعقب اعتقالات ناصر للإخوان في 1954 وقعت هزيمة 1956، وعقب اعتقالاته لهم في 1965 جاءت هزيمة 1967 الساحقة، وعليه تصبح ثورة الشعب في يناير 2011 تعويضاً لتعرّضهم في عصر مبارك للمحاكمات العسكرية الظالمة؛ هكذا أسقط الله من أجلهم النظام بأكمله! حتي توظيف الدين لا يجدي إن تفسيراً للأحداث علي هذا النحو يتبني نظرية "الإله محرك التاريخ " وآليتها "البداء" الذي اخترعه اليهود في العهد القديم ! وبمقتضاه ليس لأحد أن يسأل لماذا ترك الإله اليهود القدامي للشتات وكانوا شعبه المختار؟! ولماذا حقق لإسرائيل النصر علي العرب ؟ ولِمَ لم يعاقبها علي قتل وتشريد الفلسطينيين، وسحق الأسري المصريين أحياء بدباباتهم ؟! وكيف سمح الرب للجيش المصري أن يحقق نصر أكتوبر بينما كان الاخوان في المعتقلات والسجون ؟! حيث الإجابة مضمرة في المبدأ نفسه : لقد بدا له أن يفعل هذا ولا يفعل ذاك، وهو مبدأ سقيم لا يصمد للمناقشة . لكن أصحابه ما فتئوا يروجون بين البسطاء أنهم علي علم بإرادة الله التي قضت -حسب كلامهم - بمعاقبة من يضطهدهم بالذات، وتلك سذاجة سياسية لا يمكنها أن تغطرش علي حقائق الحياة وواقعية الصراعات البشرية. فلسفة العبث نظرية التفسير التآمري للتاريخ نعثر علي نموذجها في مقالة الكاتب د. شريف الشاذلي المنشورة بجريدة القاهرة في 7 يونية 2011 معبراً عن فكرته حول عبثية الكون، باستعارة أسطورة سيزيف حيث تسقط الصخرة من يد محمد علي باشا قبل الوصول بها للقمة عقاباً له (علي ماذا ؟) ثم يعود عبد الناصر ليرفعها لتسقط منه للقاع بمؤامرة من سادة الأوليمب (من هم ؟) وما يكاد السادات يرفعها من جديد حتي تهوي (لماذا؟) وأما مبارك الذي حملها لفترة فقد تركها تتدحرج مكتفيا بالجلوس في الظل (كيف؟) فماذا سيفعل سيزيف القادم بعد يناير؟ العلم عند سادة الأوليمب ! وواضح من هذا العرض الرمزي لتاريخ مصر الحديث تهافت نظرية المؤامرة التاريخية مما يحتم استبعادها دون تردد. التحليل العلمي النظرية الثالثة تعتمد علي التحليل العلمي للظروف الموضوعية التي جرت الأحداث في ظلها، وهي ظروف لم يصنعها أحد بالذات، بل هي إنتاج للواقع الجغرافي، ودرجة نمو قوي وأنماط وعلاقات الإنتاج، وحالة النشاط الثقافي في مجمله. فمن تفاعل البشر مع هذه الظروف إيجاباً أو سلباً تولد الأحداث الكبري ويفهم مغزاها. في ضوء هذه النظرية يمكن القول بأن ثورة يناير يمكن فهمها فقط بالرجوع إلي أوائل القرن 18 حين أدخل محمد علي زراعة القطن في مصر(وكان عملا ثوريا يوازي اكتشاف البخار في أوروبا) حيث ترتب علي تغيير نمط المحاصيل الزراعية المخصصة للغذاء إلي إنتاج المحاصيل القابلة للتصنيع، أن شيدت المحالج ثم مصانع الغزل والنسيج بجانب الصناعات التكميلية، ثم صناعة السلاح حيث احتاج الوالي لجيش عصري قوي يعزز محاولته للسيطرة علي الأسواق القريبة لزوم تصدير الإنتاج الكثيف الناشئ، ومن هنا جاءت الفتوحات العسكرية لبلاد الشام والسودان والحجاز بل وأجزاء من أوروبا وصولا إلي مشارف عاصمة الدولة العثمانية ذاتها، وبالطبع ما كان لأوروبا أن تسكت علي هذا المنافس الخطير المهدد لمصالحها الإستراتيجية فوجهت ضربتها للأسطول المصري عام 1927 مجبرة الوالي علي قبول معاهدة لندن 1840 لتدخل مصر بها دور الانكماش. وما تكاد تعاود الكرة بالثورة العرابية حتي تجهضها بريطانيا باحتلال البلاد 1882 لكن طبقة ملاك الأرض الزراعية وحليفتها طبقة الرأسمالية الجديدة ما لبثت حتي استعادت بعض قوتها إبان انشغال بريطانيا في الحرب العالمية الأولي، فسيطرت علي سوق الإنتاج والاستهلاك المحلي، وخوفا من عودة بريطانيا بعد فراغها من الحرب - متحالفة مع سلطة القصر رأس ِ الإقطاع - إلي تدمير الصناعة الوطنية المجددة راحت البرجوازية المصرية تعد لثورة هدفها إجلاء المحتل وتحجيم سلطة القصر. هكذا اشتعلت ثورة 1919 بزعامة الوفد قائد الطبقات والطوائف الشعبية، لتظفر مصر باستقلال نسبي وبدستور ملائم وبحياة حزبية وليبرالية معقولة . غير أن الثورة هذه عجزت طوال العقود التالية عن تصفية الإقطاع لأسباب هيكلية (تداخل مصالح الرأسماليين بمصالح الإقطاع) فكان ضروريا أن تتقدم شريحة من الطبقة الوسطي لإنجاز هذا الدور التاريخي شريطة أن تكون مزودة ً بالقوة . كانت هذه الشريحة هي ضباط الجيش (الكولونيلات وليس الجنرالات) من ذوي الأصول الشعبية الذين التحقوا بالكلية الحربية بعد توقيع معاهدة الاستقلال 1936 فيما احتاجت حكومة الوفد إلي مضاعفة أعداد الضباط الوطنيين حماية للأمن القومي تحسبا لنشوب حرب عالمية كانت نذرها تلوح في الآفاق . تلك كانت مقدمات ظهور الجناح العسكري الوطني من الطبقة الوسطي، وهكذا فإن طلاب الكلية الحربية الذين صاروا عام 1952 عقداء ومقدمين لم يتلكئوا عن الإطاحة بالنظام الملكي وتصفية الإقطاع، فنالوا بذلك تأييد الطبقات الشعبية دون تحفظ. بيد أن الحكام الجدد، ولأسباب هيكلية أيضا ً (كونهم عسكرتاريا مبدأها السمع والطاعة لا ترحب بالديمقراطية) ما لبثوا حتي أطاحوا بكل الانجازات الليبرالية التي سبق تحقيقها عبر ثورة 1919، فألغيت الأحزاب، وقيد حق التفكير والتعبير، وفرضت الرقابة علي الصحف والإذاعة، وفتحت المعتقلات للمعارضين، فوضعوا بذلك - ولو عن غير قصد- حجر الأساس للفساد الذي لم يزل ينمو حتي صار عملاق التجريف التنموي في العهد المباركي، في ظله ظهر ما أسميه ب " الاقتصاد الريعي للفساد " تحتكر بموجبه الرأسمالية ُ الطفيلية ُ معظم َ الناتج القومي، فكان ضروريا للطبقة الوسطي بكل شرائحها الصناعية والزراعية بقيادة شبيبتها من العاملين في ميدان الإنتاج المعرفي الحديث أن تفجر الثورة الثالثة مطيحة بالحكم الديكتاتوري وقاعدته الريعية الفاسدة . تجربة الباشا والبكباشي الخلاصة أن تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر بحسبان سعي كلتيهما إلي اللحاق بالثورة الصناعية الحديثة التي من شأنها نقل المجتمع المصري من مجتمع زراعي بالدرجة الأولي إلي فضاء المجتمعات الصناعية، إنما كان من شأنه (موضوعيا) الوصول بالمجتمع لنوع من الليبرالية السياسية - وهو ما نجحت فيه جزئيا ثورة 1919- بيد أن إخفاق تجربتي الوالي والبكباشي قد حدث جراء وصولهما متأخرتين، حيث كانت الدول الغربية الكبري (مركز النظام الرأسمالي) قد أحكمت سيطرتها علي الأسواق العالمية، بما سمح لها أن تحدد شروط النمو لكل دولة من دول الأطراف، وما من شك في أن المركز المهيمن لم يكن يري في طموحات محمد علي وعبد الناصر إلا تهديدا لمصالحه، ومن هنا جري إجهاض التجربتين من خلال إنزال الهزيمة العسكرية بهما . مجتمع ما بعد البرجوازية ربما جاءت مطالب ثورة يناير متواضعة قياسا بتجربتىْ الباشا والبكباشي، ولهذا بالضبط سوف يقدر لها النجاح، فلقد تبنت نموذج مجتمع ما بعد البرجوازية Post - Bourgeoisie Society) المصطلح صكه كاتب هذه السطور وقد اعتمده تقرير التنمية الإنسانية العربية برنامج الأممالمتحدة الإنمائي للعام 2004 في الإطار 7-1 ص158) وجوهره " عناصر ومنظمات المجتمع المدني، أحزاب بغير وصاية، وصحافة لا تطالها المصادرة، ونقابات مستقلة عن الحكومة، وأندية وجمعيات ثقافية ومذاهب لا تجُرم، وتيارات فكرية فنية وأدبية لا تخضع لإرهاب معنوي، وسينما ومسرح يلبيان الحاجات المعنوية للشعب دون رقابة بطريركية، ودستور لا تناقض مواده ميثاق حقوق الإنسان. كل هذا برعاية دولة عصرية لا تمايز بين عقيدة وأخري، أو رجل وامرأة .. دولة عصرية تفصل بينها وبين الدين كممارسة سلطوية، لكن لا تفصل بينه وبين المجتمع كنبض من نبضاته، وتشوّف من تشوفات الروح فيه " ربما يري الماركسيون الأرثوذكس أن إخفاق الثورات الشعبية في إزاحة طبقة البرجوازية عن مركز الصدارة مسألة مأساوية، فهاهو صاحب كتاب" نهاية التاريخ وخاتم البشر " يخرج لسانه للاشتراكيين مؤكدا ًعلي بقاء الرأسمالية أبد الدهر، والحال أن التاريخ هو الذي يخرج لسانه لفوكوياما قائلا : من مكمنه يؤتي الحذرُ، فالبرجوازية لها ما بعدها : مجتمع مدني متقدم ينهي الصراع بين الطبقات عن طريق الإصلاحات المستدامة والثقافة رفيعة المستوي، والتضامن والتكافل بين الأمم والشعوب في حضن الأممالمتحدة التي تعُد جنينا لدولة الأرض الموحدة. وهذه هي اشتراكية العصر القادم التي ينبغي في ضوئها قراءة ثورة يناير المصرية .