يتم نقل مركز السلطة السياسية إما عبر وسائل ديمقراطية (صناديق الاقتراع) أو عبر وسائل غير ديمقراطية مثل الطرق الأوتوقراطية (الوراثة) في نظم الحكم الملكية أو الانقلاب حيث تنتقل السلطة من يد فئة الي أخري باستخدام القوة دون حدوث أي تغيير حقيقي تغيير وجوه الحكام أو عبر الاستخلاف أو الايلولة في النظم الجمهورية بأن يختار الحاكم من يخلفه (كتائب الرئيس) مع محاولة إصباغ الاختيار بصبغة شعبية (الاستفتاء).. وقد اخترعت نظم حكم جمهورية عربية مزيجاً بين الطريقتين بتهيئة نجل الرئيس (في حالة سوريا ومصر وليبيا واليمن) لوراثة والده أو صهر الرئيس (في حالة تونس) لخلافة حماه. أما الانقلاب الثوري فهو انتقال السلطة من يد فئة محدودة الي يد فئات أوسع عبر القوة (الجيش) ودعم الشعب لها دون مشاركة فعلية منه في عملية نقل مركز السلطة (23 يوليو 1952 نموذج لذلك). وتعد الثورات الشعبية أبرز وسائل نقل السلطة عبر ارادة الجماهير لكن نجاحها يعتمد علي موقف القوة منها فالنظم الحاكمة عادة ما تستخدم كل ما تملكه من وسائل القوة لإجهاض الثورات الشعبية لكن انحياز الجيش للثورة الشعبية هو العامل الحاسم لنجاحها وهذا هو ما حدث مع ثورة 25 يناير التي عبرت عن رغبة شعبية واسعة في التغيير وأيد الجيش مطالبها المشروعة لكونه مؤسسة وطنية ولان الاوضاع أوشكت علي المساس بالنظام الجمهوري ذاته وبكيان الدولة ولان الاختيار بين مصر وبين فئة تملكها جشع السلطة كان سهلاً فجاء الرفض سريعاً لمحاولات تلك الفئة توريط الجيش في مواجهة مع شعبه وأتي التدخل مع وجود فرصة للتدخل ورغبة في التدخل تأييداً للمطالب المشروعة وإنقاذاً للبلاد والعباد وهي رغبة عبرت عنها الثورة بشعار (الجيش والشعب ايد واحدة) الذي عبر بدوره عن تفويض الشعب للجيش بادارة البلاد بعد إسقاط النظام. (1) من سمات الثورات حسبما يحددها كتاب »الثورة والتغيير السياسي« للدكتور فاروق يوسف أحمد انها تطور تكتيك العمل لتشكيل نظام سياسي جديد لإحداث تغيير سريع في القوة السياسية في المجتمع وفي توزيع عوائد النظام (الجديد) بعد نجاح الثورة لصالح كل قطاعات الشعب ولإلغاء وسائل المهادنة والحلول الوسط للمشاكل وللعمل المباشر لتحقيق مطالب الثورة وأهدافها ولعدم السماح لانصار النظام الساقط بالعودة عبر أبواب خلفية أو بإشغال الثورة وإيقاعها في أخطاء سياسية تشوهها أمام الرأي العام. ولان التأخير أو التباطؤ في ذلك يثير الشكوك والاضطراب ويغري أصحاب المصالح في النظام الساقط وحتي قوي خارجية بالاختراق والتدخل يصبح علي القيادة السياسية أن تتحلي آراؤها بالحسم والحزم والرشد في آن واحد وأن تنشئ كياناً تنظيمياً لبناء نظام جديد حيث تعد دعاوي الاصلاح هنا نوعاً من الترميم للنظام الساقط أي استمراره مع ادخال تحسينات عليه. ومن ثم فان السؤال هنا هو: هل التغيير التدريجي منهج سليم للعمل؟.. والاجابة: نعم، شرط أن يؤدي العمل الي إنهاء النظام الساقط وأساليب ادارته للبلاد تماماً. لان غير ذلك يعني استمرار هذا النظام واجراء عمليات ترميم غير مجدية بالمرة ويعني ذلك أن القيادة السياسية بعد الثورة غير جادة ولا تدرك حتي أنها هي نفسها قد جاءت للسلطة بفعل عمل ثوري تستمد منه شرعيتها!. (2) الشرعية هي سيادة رأي الجماعة الوطنية ورضا الشعب عن النظام السياسي القائم والمشروعية هي سيادة حكم القانون وفقاً لقواعد الدستور ولان الثورة تقوم خارج نظام القانون القائم إلا انها تعبر عن الشعب الذي هو أساساً مصدر السلطات ومن ثم فهي عمل شرعي وهذه الشرعية تجعل الثورة تسمو علي القانون وتؤسس لشرعية جديدة هي الشرعية الثورية. وهذه الشرعية هي التي تعطي الحق للقيادة السياسية بعد الثورة في هدم النظام الساقط تماماً واقامة نظام جديد بمعني أن هذه الشرعية تعطيها سلطة يترتب عليها مشروعيتها أي ان الثورة لا تحتاج الي مشروعية القوانين السابقة علي وجودها فما تحتاجه الثورة فقط هو الشرعية التي تخول لها السلطة اللازمة وقد حصلت عليها بنجاح الثورة. والثورة الكاملة هي التي تحقق أهدافها بإنهاء حكم وسيطرة فئة علي السلطة واقامة نظام جديد تحصل فيه كل فئات المجتمع علي حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن دون تحقيق ذلك تصبح الثورة ناقصة. والشاهد أن البعض لايزال بعد 11 فبراير (رحيل النظام السابق) غير مدرك كما تشي بذلك تصريحاته وممارساته ونهجه وأساليبه في العمل أن هناك شرعية جديدة في البلد فيتحدث عن الدستور الساقط بطبيعة الامور مع سقوط النظام والاستناد الي مشروعية (القوانين السابقة علي الثورة) النظام الساقط وينتهج المهادنة والحلول الوسط في التعامل مع مخلفات النظام السابق وامكانيات الاصلاح والترميم دون هدم للنظام الساقط!. (3) تمر الثورات بعدة مراحل حتي تتحول الي نظام سياسي هي مرحلة حكم المعتدلين ومرحلة حكم الثوريين ثم مرحلة العنف والفضيلة فمرحلة النظام السياسي وأخيراً مرحلة الاستقرار. وقد تمر ثورات بهذه المراحل وتقفز ثورات علي مراحل وهناك ثورات تتوقف عند مرحلة بعينها لاسباب داخلية أو ضغوط خارجية وقد يطول عمر مرحلة عن اللازم أو المنطقي. في المرحلة الاولي عادة ما يتولي الحكم مجموعة من المصلحين يصفهم الدكتور فاروق يوسف بأنهم »يشبهون الي درجة كبيرة المعارضة النظامية لمرحلة ما قبل الثورة« وربما يكون بعضهم عمل مع النظام الساقط وأمثال هؤلاء يمكن وصفهم بأنهم اصلاحيون وليسوا ثوريين ووجود هؤلاء في السلطة اذا سارت الامور بشكل طبيعي مؤقت. وبين المرحلة الاولي والثانية تحدث ازدواجية في الحكم فمع وجود المعتدلين في السلطة تكون عادة هناك حكومة ظل من الثوريين تراقب وتقيم وتعترض وعناصرها هم مجموعة من الثوار والمناضلين ضد النظام السابق تم إقصاؤهم بعد نجاح الثورة ترفض الحلول الوسط وتؤمن بالحلول الجذرية في التعامل مع مؤسسات وشخصيات النظام السابق ومصدر قوة هؤلاء هو... الشرعية، لذا ينتهي الخلاف اذا سارت الامور بشكل طبيعي بانتصار الثوريين شرط ترابطهم وقدرتهم علي الحركة بسرعة في اتخاذ القرارات. وتتجه الاوضاع في المرحلة الثالثة الي اقامة حكومة مركزية وتولي السلطة الفصيل الاكثر التزاماً بأهداف ومطالب الثورة ويجسدها وفي هذه المرحلة يتم فيها عادة اذا سارت الامور بشكل طبيعي القضاء الكامل علي الماضي باستخدام بعض من العنف أحياناً لتحقيق الاهداف. لذا تبدأ المرحلة الرابعة بشيء كبير من الاستقرار وتعود الحياة العامة الي طبيعتها وتنتشر النخب السياسية الجديدة في مؤسسات الدولة والمجتمع وتصبح شعارات الثورة والمواثيق السياسية عندها جزءاً من الماضي والتاريخ لتحل الشرعية الدستورية وتصبح الثورة نظاماً سياسياً. وفي المرحلة الخامسة يعمل الجميع تحت سقف الدستور والقانون وقد تشهد هذه المرحلة المعركة الاخيرة بين الثورة وبين أعدائها كما قد تشهد وصول النظام السياسي الجديد الي مرحلة وسط بين أهداف الثورة وما كان قائماً قبل قيامها فالنظام السياسي لاسيما في الدول الكبيرة ذات التاريخ الطويل يحكم الدولة عبر مؤسسات دولة. (4) في ثورة 23 يوليو 1952 دروس مستفادة لثورة 25 يناير 2011 فثوار 23 يوليو كانوا اختاروا اللواء محمد نجيب قائداً (واجهة) للثورة وهو الاكثر اعتدالاً من أي من رجال الثورة الشباب وقد فسر المستشار طارق البشري ذلك بأن ترتيب الثورة كان يقوم علي إطاعة الاوامر ولذلك كان لابد من وجود رتبة عالية تضمن الطاعة وتحيط ذلك بالشرعية اللازمة أما توفيق الحكيم فقد فسر ذلك بأن شباب الثورة استصغروا أنفسهم علي مواجهة الناس وهم صغار السن والرتبة وخشوا ألا يأخذهم الشعب مأخذ الجد. ومن ثم جاء الثوار أيضاً بعلي ماهر رئيس الديوان »الملكي« السابق رئيساً لاول حكومة للثورة وهو من رموز العهد البائد الذي قامت الثورة لإسقاطه بغرض وحيد هو تأمين الانتقال الهادئ وضمان عمل المؤسسات خلال الاشهر الاولي وبعدما تحقق الغرض أعفي ماهر من منصبه وتولي نجيب رئاسة الحكومة. مع نجيب تبدت الازدواجية في الحكم بين المعتدل محمد نجيب والثوار وشهدت البلاد تسعة أشهر ساخنة في الفترة من فبراير حتي نوفمبر 1954 فقد تقدم نجيب باستقالته وأيدت الاحزاب السياسية التي كانت جزءاً من النظام البائد وسلاح الفرسان (المدفعية) وجماعة الاخوان المسلمين بقاء نجيب وكاد الموقف يهدد باندلاع صراعات تجهض الثورة وتسهل الاستيلاء عليها وعلي السلطة فرضخ الثوار مضطرين الي الطلب من نجيب بعد أربعة أيام مشحونة العودة الي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. ما حدث بين يوم عودة نجيب (27 فبراير) وسط ترحيب شعبي وبين يوم عزله مجدداً (14 نوفمبر) وسط ترحيب شعبي يستحق أن يدرس فقد استطاع الثوار بقيادة جمال عبدالناصر خلال تسعة أشهر قلب كل الموازين وإنهاء الازدواجية في الحكم لكي تبدأ مرحلة حكم الثوار بأنفسهم... فكيف حدث ذلك؟. كانت الخطوة الاولي استعراض القدرة علي تحريك الشارع فأوعز الثوار لعمال النقل بالقاهرة بالاضراب تأييداً لمجلس قيادة الثورة والثانية: إجبار نجيب علي التخلي عن رئاسة الحكومة لعبدالناصر أي الامساك بمقاليد ومفاتيح البلاد مع احتفاظ نجيب بمنصب رئيس الجمهورية والثالثة: انتشار النخبة السياسية الجديدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها السياسية والادارية والاقتصادية، والرابعة: بالتزامن مع هذا الانتشار تنفيذ حركة تطهير في مؤسسات الدولة وأجهزتها للتخلص من قياداتها من رجال العهد البائد وأنصار الحلول الوسط والمهادنين، والخامسة: انشاء التنظيم السياسي (هيئة التحرير) الذي وفر للثوار الاتصال المباشر بالجماهير التي عرفت أن عبدالناصر القائد الحقيقي للثورة وبحيث لم تعد جماعة الاخوان المسلمين هي التنظيم الوحيد الموجود في الشارع بعد الغاء الاحزاب، والسادسة: وبالتزامن مع كل الخطوات السابقة توجيه خطاب اعلامي لتشكيل وعي الجماهير يحدد من هم العائق أمام تحقيق أهداف الثورة مع الحفاظ علي قوام المؤسسات الامنية التي لديها سجلات تتعلق بأعداء الثورة. ومع هذه الخطوات وذاك الاداء السياسي للثوار ارتكب نجيب وجماعة الاخوان خطأين قاتلين ساهما في نجاح هذه الخطوات فالاول أصدر منشوراً وهو »رئيس الجمهورية«! ينتقد فيه اتفاقية الجلاء التي أبرمها عبدالناصر مع بريطانيا والثانية حاولت اغتيال عبدالناصر بميدان المنشية بالاسكندرية في أكتوبر 1954 فلم تمر أسابيع معدودة حتي تم إنهاء الازدواجية في السلطة والشارع معاً. (5) هناك نظريات عديدة لتفسير أسباب قيام الثورات منها نظرية أرسطو (الانفصال بين ملكية القوة الاقتصادية وبين السلطة السياسية) ونظرية كارل ماركس (الاستغلال الاقتصادي للطبقة المالكة لادوات الانتاج) ونظرية التوازن الاجتماعي لاصحابها بارسونز والسون ودانيال بل (عدم التناسق بين المركز الاجتماعي والدخل المادي) ونظرية المجتمع المصري لوليم كوزن هوز (انقطاع الصلة بين الحاكم والجماهير بسبب فساد الجماعات الوسيطة الموالية للنظام السياسي) ونظرية جيمس ديفز (تراجع التوقعات بتحسن الوضع الاقتصادي وإحباط الجماهير) ونظرية كارل دوتش بشأن (عدم التوازن بين قدرة الحكومات وأعبائها) ونظرية هاري إيسكتين (عدم تعبير أنماط السلطة عن المجتمع). يمكن القول إن ثورة 25 يناير قامت لكل هذه الاسباب مجتمعة فقد جمع نظام حسني مبارك بشكل فريد من نوعه كل عيوب وخطايا الانظمة السياسية في واحد.. من الديكتاتورية الي الرأسمالية المتوحشة الي الفساد والإفساد المنظم مروراً بتغييب القوي السياسية وفساد النخبة وشعور الشعب بالإحباط والمهانة وممارسة القهر والإذلال واستخدام العنف وتجاهل مطالب الجماهير وفقدان الاتصال وتلاشي الطبقة الوسطي. ونظراً لكون ثورة 25 يناير لعبت فيها التكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة دوراً رئيسياً فان نظرية الدكتور فاروق يوسف (الوعي المقترن بالحرمان السياسي والاقتصادي) تعد الاقرب لتفسير أسباب انطلاق ونجاح الثورة فوفقاً لتلك النظرية التي طرحها يوسف عام 1978 مع بواكير ثورة المعلومات فإن الثورة تنفجر بسبب عدم مقدرة النظام السياسي القائم علي إشباع حاجات مواطنيه وعدم احترامه حقوقهم الاقتصادية والسياسية إما بسبب عجزه أو عدم رغبته في ذلك وشعور أفراد المجتمع بالحرمان كون الموارد المتاحة لغيرهم من أفراد الجماعات الموالية للنظام غير متاحة لهم نتيجة عدم العدالة في توزيع الموارد. وتكتمل الاسباب بعوامل مساعدة تحول الشعور بالحرمان الي انفجار شعبي هي التعليم وتطور وسائل الاتصال الحديثة وتكنولوجيا الاتصالات التي تساعد علي انتشار الافكار الخاصة بالعدالة والحرية والمساواة والحق في حياة كريمة ما يثير في النفوس الثورة عن طريق عقد المقارنات حيث أصبحت ووسائل الاتصال حسب هذه النظرية مصدراً للاماني والتطلعات ومصدراً للتوتر في آن واحد. وهكذا يقضي كل من التعليم وسائل الاتصال (الوعي) علي الموانع التي تمنع المواطن من التعبير عن الاحساس بالظلم مثل التقاليد القديمة والتفسير الخاطئ للدين (طاعة أولي الامر) الذي يستخدمه النظام السياسي لإعاقة تطور الوعي وإجهاض الغضب الاجتماعي فبالتعليم ووسائل الاتصال تنتقل الجماهير من مرحلة الغضب الي مرحلة الثورة وتضعف أمامها وسائل القهر والقمع والعنف والقوة لدي النظام الحاكم. (6) المشترك بين كل هذه النظريات هو أن عدم تحقيق الثورة الاهداف والمطالب التي انفجرت من أجل تحقيقها يعني ان أسباب الثورة لاتزال قائمة وأن الثورة ناقصة ويشوب قيادتها بعد نجاحها عجز أياً كانت أسبابه ما يرجح الانفجار في مواجهة محاولات تسعي لخفض سقف توقعات المواطنين المنتظرة من الثورة أو لاحتواء الثورة أو للاستيلاء عليها أو لحرفها عن أهدافها بحيث تبدو وكأنها انقلاب!. [email protected]