أنا الآن أجلس في مكتب عبد المنعم أبو الفتوح الطبيب الذي انشق عن جماعة الإخوان المسلمين ليتقدم لانتخابات الرئاسة بأجندة إصلاحية . . أنصت لفريق مساعديه المكون من ثلاثة متخصصين متطوعين يصفون لي هذه الاستراتيجية أو الأجندة الإصلاحية . والحقيقة أنني قابلت خلال إقامتي الأسبوع الماضي بالقاهرة عددا من المصريين ومن كافة الانتماءات السياسية ، أكثر من عدد من التقيت بهم خلال زياراتي لمصر علي مدي الثلاثين عاما الماضية .بالطبع لم تكن هذه مصادفة ، فمصر تحت حكم مبارك لم يكن فيها سوي شخص واحد فقط يتم السماح لك بالحديث معه ، شخص واحد يملك سلطة اتخاذ القرار الخاص بمن يتعين عليك مقابلته . وكل ما عدا هذا الشخص كان مجرد منتظر لما يقرره هذا " الإله " ، وكانت جميع النقاشات عبارة عن أوامر من أعلي إلي أسفل . ومع ذلك ، فهذه لم تعد قضيتنا الآن . فقد عرف المصريون من جديد كيف تكون أصواتهم مسموعة ، وأعادوا حتي اكتشاف من يعيشون بينهم من جيران ، لدرجة أن أحد قيادات الإخوان المسلمين قال لي إنه فوجئ بهذا العدد الكبير من المسلمين السلفيين الذين يعيشون علي أرض مصر . وهكذا ، فعندما يقول لك أحد المتشددين أنه فوجئ بهذه الأعداد الكبيرة من أناس أكثر تشددا منه ، فما عليك إلا أن تتخيل وقع المفاجأة علي الليبراليين أنفسهم . جنرالات مصر في المجلس العسكري أيضا لم يسلموا من المفاجآت ، فقد امتقعت وجوههم من كثرة أعداد الشباب العلماني غير المسلح ، المستعدين لمواجهة القوات في الشوارع لإجبارهم علي التخلي عن السلطة . أما المفاجأة الكبري فهي لكل من يزور مصر مثلي : " أوو .. معقولة .. أنت تعيش هنا أيضا " ، مفاجآت ومفاجآت كلها أصبحت تشكل طبيعة الحياة في مصر الآن " . ومع ذلك ، فكلما يطول بك المقام في مصر ، يظهر لك - بجلاء - أن الثورة لم تعرف طريقها إلي مصر بعد " . فالنظام العسكري الذي حكم مصر منذ عام 1952 لا يزال في السلطة ، و كل ما حدث هو أن المجلس العسكري حل محل مبارك . ولكن الانتفاضة التي حدثت في 25 يناير تمكنت من رفع الغطاء عن هذا المجتمع لتسمح للأكسجين بالنفاذ إليه . فقد سمحت هذه الانتفاضة وما تبعها من انتخابات للقوي السياسية والأحزاب والأصوات الجديدة والناشئة لتوها في مصر بالخروج إلي السطح . وبغض النظر عن هوية الرئيس القادم لمصر ، فإنه سيجد أنه من الأفضل له أن يكون مستعدا لحوار مع القوي الجديدة و الناشئة ، حوار يتخذ مسارين وليس مسارا واحد ، (ا من الرئيس إلي الشعب ومن الشعب إلي الرئيس ) وليس كما مبارك حوار من أعلي إلي أسفل قرره شخص واحد فقط هو الرئيس نفسه . ولكن وحتي لو أرادت مصر أن تعرف ثورة ديمقراطية فإن تغييرا حقيقيا في هيكل السلطة وهياكل المؤسسات يجب أن يحدث ، ويسمح باستيعاب هذه القوي الجديدة والناشئة ، ومن خلاله تجد طريقها للعمل مع سائر القوي الأخري لوضع دستور جديد ، وانتخاب رئيس جديد ، وهذا ما ينبغي أن يكون. فالمشكلات الاقتصادية ، التي يتعين علي مصر أن تواجهها اليوم مزمنة . وتتطلب تكاتف كل أفراد المجتمع ، ومع ذلك فالانقسامات وانعدام الثقة بين القوي الجديدة و مراكز صنع القرار القديمة - الجيش والشرطة ، والإسلاميين والأقباط والأغلبية الصامتة التقليدية - هذه الانقسامات تظل عقبة كئود أمام حل هذه المشكلات . مصر تحتاج إلي إجازة توافق " ويك إند من الانقسامات " لكي تتعرف علي نفسها وتعرف طريقها من جديد . فمصر ، وهذا ليس بعجيب ، كانت تدار قبل يناير ، كما يدير كل الحكام العرب المستبدين دولهم ، كما كان يفعل مبارك ، علي طريقة " مضارب تنس حماية الحاكم " التعبير الذي استخدمه دانييل برومبرج مساعد مدير مركز دراسات الديمقراطية والحكم بجامعة جورج تاون .فالحاكم يستخدم كل القوي المختلفة الموجودة بالمجتمع كمضارب يدفعها لكي تلاعب بعضها البعض ، وتقاتل بعضها البعض ، وكل منها يخشي علي نفسه من الآخر ، لكي يستتب له الأمر ، وسط انشغالهم عنه بمبارياتهم ، في الوقت الذي لا يسمح فيه لأحد بالإجهاز علي الآخر ، لأنه لا يريد أن ينتهي اللعب أو الصراع ، حتي يضمن استمرار حماية إحكام قبضته علي البلاد . ورغم كل ذلك فما قد يدعونا للأمل هنا هو أن هناك سياسيين مصريين قد هبوا في الأيام الأخيرة من أجل إقامة جسور ثقة بين مختلف مراكز صنع القرار القديمة والجديدة من أجل عبور الأزمة ، بدلا من خسارة الحاضر والمستقبل .