أم أنهم يحسبون الشعب المصري قد تأخر كثيرا فلن يستطيع اللحاق بركب التقدم الإنساني الهائل ومد العلوم الفائر، وأنهم أيضا لم يكونوا يدركون حقيقة معدن هذا الشعب وجوهره النفيس، علي ان الأقدار سطرت اليوم حقيقته، وأظهرت من خبئها أعظم القيم في عالمنا المحفوف بالمساوئ. إنه شعور استحوذ علي كل مصري نبيل، هز وجدانه مشهدان تداخلا في وقت واحد وأكد للعالم أجمع ان الثورة المصرية بحق هي أعلي ثورة في العصر الحديث، لأن أبناء الشعب بكل طوائفه، انتفضوا علي الظلم بعد طول صمت وثاروا علي الخوف بعد طول تنكيل وبطش مورس ضدهم وضد مستقبلهم، وحدث ما كان يحذر منه الحاكم وبطانة السوء من حوله، خرج المسالمون بالملايين علي قلب رجل واحد، فالشعب يريد إسقاط النظام، والشعب يريد محاكمة النظام، وها هو الشعب ينتصر بالمشهدين، ويسقط أكذوبة اضطهاد المسيحيين فيهم، وتبدو الصورة بمشهدها بهاء علي بهاء، فكان قداس عيد الميلاد تحفة رائعة تعبر عن انتصار الثورة، وسقوط الطائفية التي كان يصنعها النظام السابق ويشعل نارها. ثم ها هو أيضا يرد اعتباره وينهي العملية الانتخابية في مشهد بهي، برغم الميراث الكالح والذكري السوداء لما كان يجري أثناء أي عملية انتخابات تمت من قبل طوال أكثر من نصف قرن من الزمان، ومهما كانت النتائج التي خرجت بها هذه العملية والسلبيات التي صاحبتها، فإنها قد وضعت نهاية لحالة اليأس والقنوط المسيطرة علي نفوس المصريين والثقل الشديد الذي كتم أنفاس الحرية فيهم. لقد امتزج المشهدان في آن، وقربا الأمل في النهوض السريع الذي نرجوه لبلادنا، وكم طالت بنا احزان البعاد ولم يكن هناك من بصيص أو خيط نور ليخرجنا من دوامات الطائفية التي كانت تهددنا بها يد القهر والمؤامرة، وأتون الاستبداد وكبت الحريات الذي كنا نتخبط فيه كالهوام ونخبة الحكم الظالمة تزيد من تخبطنا وأسانا، اليوم تبدو صورة جديدة مع مولد عام جديد، فمصر تتطهر من ادران الأمس وتنفض عن وجهها الجميل التراب، وتغسل نفسها بالحرية الجديدة التي هي كأمواج النور تكتسح الظلام، مصر برغم كل هذا الحصار الأبله الذي يمارسه الصغار ضدها تتفجر بالخير والعدل والرحمة لكل شعوب المنطقة وهذا هو مبعث الخوف الذي أخذ طريقه إلي قلوب المرتعدين من الثورة المصرية.. لأنها سوف تفتح أبواب الحرية في المنطقة علي مصراعيها، ولم يعد أمامها وقت حتي تستقر في بلادها ثم تنتشر بفعل طبيعتها غير المسبوقة في التاريخ، لأنها كالريح المرسلة، تفتح النوافذ المغلقة بتلقائية، وتسوق سحابا إلي بلد ميت ليحيا بإذن ربه. وأعيد لأتذكر كل اللحظات الخالدة في تاريخ مصر، كانت تجيء بعد يأس عنيف وأحزان مستفيضة حتي ليشعر كل حي فيها بأن الماء قد بلغ به الغرق، وأن الأرواح قد بلغت الحناجر وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، هذه لحظات الإيمان التي تنبع من أصل اليقين، فليس لها من دون الله كاشفة، ليكشف الله عنا السوء ويبعث فينا الأمل، هكذا اتفقت لنا ابتلاءات الله ورحمته، وأخذتنا إلي سبيل الكرامة والعزة بعد أن افتقدنا ذلك زمنا، وها هو الفجر يطلع من مطلعه الطبيعي الآن. حرارة وكل الذين أصيبوا أو استشهدوا التاريخ سيكتب في صفحاته المجيدة، كيف كانت التضحية والبذل والفداء، وأن الذين افتدوا هذا الوطن في أحلك اللحظات أجدر ان ينتشوا فوق جبين الزمان وأن تنبت أعمالهم النبيلة في أحشاء المكان.. ومصر هي الزمان والمكان الذي افني الطغاة ومسحهم من الوجود، مصر هي حقيقة الذي فقأت عينيه ليبصر الآخرون طريقهم إلي الحرية، ولتتحول التجاويف المظلمة من بعد فقدهما إلي طاقة نور أبدية تتجدد أمامها أسباب الحياة وتنفتح الآفاق بغير حدود للأجيال الآتية، وحين ارتسمت ابتسامة الرضا علي الوجه المنحوت فيه الصبر لأحمد حرارة، كأنما أضاءت مصر كلها بالأمل، وانفجرت الثورة من جديد، كأنه البطل الملحمي يأتي من أغوار الزمن البعيد، زمن الرجولة، زمن النبل والسخاء، يجود فيه المرء بعينيه أو بساقيه أو بساعديه، أو يجود بالروح، ولا يكون المنتهي، هذه مصر العظيمة تشهق من جديد، بالصديقين والشهداء، وهم يروون أجل العظات وأسمي العبر، حرارة والمصابون جميعا والشهداء، هم طليعة المستقبل الذي نجنيه الآن، وستجنيه معنا كل الشعوب العربية بعد أن تأخذ الثورة وقتها ومداها، وبعدها تصبح الحرية كالماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه، والضمير الذي يعيش بيننا بلا مفارقة أو انتهاء. محمد ابراهيم.. والروح الوطنية جاء اللواء محمد ابراهيم في الوقت المناسب بهذه الروح الوطنية الخالصة، ليؤكد ان هناك رجالا لديهم من الشهامة والشجاعة ما يمكن ان يعيد الثقة في أبناء مصر الشرفاء ويدفعهم لامتلاك زمام الأمور في وزارة الداخلية واستعادة أمن مصر الذي فرط فيه بعض الخونة وعاونهم البلطجية الذين تربوا في أحضان النظام الساقط، ان هذا الرجل ومن علي شاكلته طاقة أمل لا نفرط فيها أبدا.