عبر سنوات طويلة اصطخبت بالأحداث، وشهدت سقوط بعض البني السياسية الجبارة، والشخصيات التي لطالما كانت عمد الحياة السياسية العربية، تعمدت متابعة تطورات الحالة العراقية خصوصا، واعتبرتها مفتاح الخريطة السياسية للمنطقة. إذ إتكأ الاحتلال والغزو الأمريكي لبلاد الرافدين علي سنادة نظرية تقول بأنه جاء ليس فقط لاسقاط الرئيس صدام حسين، ولكن لبناء نظام ديمقراطي نموذجي، وأنه لن يترك العراق إلا بعد أن يكتمل التشكيل الديمقراطي فيه، لا بل أن بول ولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد في إدارة جورج دبليو بوش (التي هندست الغزو ونفذته بعد أن هيمنت عليها قوي اليمين المحافظ) قام بإحياء نظرية أمريكية قديمة وهي: (الدومينو) التي قامت علي محاولات تفكيك واسقاط احدي دول الكتلة السوفيتية القديمة، لكي تتساقط تباعا بقية دول المنظومة التي تبدو كأحجار الدومينو المتساندة. وقد رأي ولفويتز الذي كان كذلك أستاذ علاقات دولية في جامعة جون هوبكينز أن تلك النظرية يمكن اعتمادها في الشرق الأوسط لاسقاط نظمه، وإشاعة الفوضي الخلاقة، ثم بناء ما أسمته الأوليجاركية (الزمرة) الأمريكية المتطرفة التي حكمت في عهد بوش الابن: (الشرق الأوسط الكبير). وبهذه الحيثيات تابعت كل واردة وشاردة في العراق الجديد، لتبين الطريقة التي ستشيد بها واشنطن ذلك العراق الجديد، بدءا من احتلال مؤسساته الاستراتيجية وبالذات البترولية بجيوش من الخبراء ورجال المخابرات الأمريكية، وكذلك حل الجيش والشرطة، وما عُرف باجتثاث حزب البعث، ومجموعة أعمال المقاومة المسلحة في وسط العراق، وتشكيل المجلس الانتقالي والانتخابات، وتشكيل البرلمان، والتي أفضت جميعا إلي حصول ما يعرف باسم القائمة العراقية المكونة من أحزاب سنية يرأسها إياد علاوي الشيعي العروبي العلماني، علي أكثر »الأصوات«، في حين قام ائتلاف دولة القانون (الذي ضم الأحزاب الشيعية) بتشكيل الحكومة بعد حصوله علي أغلب »المقاعد«! وتعددت المظاهر التي أشارت متوالية إلي أن العراق الذي يتشكل، ليس بالضرورة ديمقراطيا سواء عبر ثقافة المحاصصة التي سادت عمليات بناء الدولة حتي مستوياتها العليا (جلال الطالباني رئيس الدولة كردي+ نوري المالكي رئيس الوزراء شيعي+ أسامة النجيفي رئيس البرلمان سُني).. كما تكاثرت وتناسلت الدلائل التي تشير إلي أن نوري المالكي بالذات يقود العراق إلي وضع ينتقل من (احتلال أمريكي) إلي (هيمنة ايرانية)، وبدا أن ذلك الحال بات أمرا واقعا صادق عليه منظر الحجيج السياسي من كل الأطياف السياسية العراقية إلي طهران وقت أزمة تشكيل الحكومة العراقية، كما أكده الارتباط الوثيق بين المالكي وايران، وأشارت المراكمات الصحفية والبحثية العراقية وقت الغزو في أحيان كثيرة إلي أن نوري المالكي هو عميل ايراني بامتياز! ومن الطبيعي حينئذ أن يبني المالكي تحالفاته الاقليمية في قوس شيعي يمتد من ايران إلي دمشق (العلوية) إلي لبنان (حزب الله)، ومن الطبيعي كذلك أن يعلق رهانه علي نجاح طهران في النفاذ من أزمة الملف النووي، وعلي افلات نظام الأسد من سقوط اراده البعض وشيكا، وعلي نجاة آلة حزب الله العسكرية من التحطيم. وما رآه المالكي دعما وسنادة ضروريين لتلك الحزمة من معادلات الارتباط الاقليمي، كان السعي نحو ديكتاتورية طائفية بالمعني الحرفي للكلمة، لضمان تركيز السلطة في يده، والتخديم علي الاحتياج الشيعي/ الاقليمي، الذي توظف المالكي لخدمته وأراد توظيف العراق كذلك، مستغلا الدعم الأمريكي غير المشروط الذي منحته إدارة أوباما له فيما تلملم ملابسها قبل الرحيل من العراق. المالكي سعي بسرعة إلي ضرب نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي (السني) عبر اتهامه بمساعدة الارهاب في السنوات الأولي للغزو، بما دفع الهاشمي إلي الهروب لأربيل، ومطالبته أن يحاكم أمام قضاة كرد، بينما محافظة صلاح الدين السنية تطالب بنوع من الحكم الذاتي، والأكراد يراقبون بقلق الغارات التركية الغاشمة علي الكرد في جنوب شرق تركيا والتي سقط فيها العشرات بعد أن اتهمتهم تركيا بأنهم مهربون ثم اعتذرت (ويزداد قلق أكراد العراق حين يرصدون الصمت الأمريكي والدولي علي التصرف التركي فيما تهيج عواصم الغرب مجنونة. إذا مارست أجهزة النيابة المصرية دورها منفذة القانون بمراقبة التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، يعني واشنطن انتقائيا تعتبر التصرف التركي غير مناهض لحقوق الإنسان، وتري التصرف المصري ماسا ومقلقا، ومزعجا وينبغي أن يتوقف فورا)! الآن وعبر انخراط المالكي في صون ورعاية تحالفاته الشيعية/ الاقليمية، وعبر رغبته في اقصاء أطراف اللعبة السياسية العراقية والانفرد بالسلطة، واستكمال رتوش لعبة الديكتاتورية الطائفية، فإن العراق يقترب فعلا من حرب أهلية تسابقها دعوات التقسيم، ولم يعد أمام اياد علاوي زعيم القائمة العراقية، وأسامة النجيفي رئيس البرلمان ورافع العيساوي وزير المالية إلا أن يهرعوا إلي مخاطبة أوباما في رسالة مطولة قبل أن تبرد محركات مركبات الغزو الأمريكية المنسحبة، مطالبين بضغوطه لتشكيل حكومة وحدة وطنية تشترك فيها الفصائل السياسية العراقية المختلفة. نحن نتكلم عن بلد قال الأمريكيون أنهم سيبنون الديمقراطية فيه، فكرسوا ثقافة التقسيم، وعبدوا طريقا ممهدا إلي وضع ما قبل 7191 (ولاية البصرة+ ولاية بغداد+ ولاية الموصل)، وثقافة التقسيم كما يظهر الآن بجلاء ليست افرازا لمعطيات الواقع، بمقدار ما هي نتاج لخطط دولية سابقة. وأذيع سرا فأقول ان جهات رسمية وحكومية مصرية تعكف الآن علي رصد أخطار سيناريوهات كاملة لتقسيم مصر وقعت في أيادي مسئوليها، ومرفق بها خرائط تفصيلية!.. ومهما كان تصور البعض عن أن مصر (أمة) يصعب تقسيمها، فإن الوثائق هي دليل ثبوت علي (وجود) الأفكار، لا (جدوي) تنفيذها. التقسيم في العراق سيسمح لايران أن تتمدد علي حساب دولة جنوب العراق، لأن المسيطر عليها يقبض علي الزعامة الروحية الشيعية في العالم. ايران تحلم مرة أخري منذ الدولة العثمانية بالتمدد غربا، والفرصة سانحة في العراق، ولا ينبغي تصور أن التصعيد الأمريكي/ الايراني الحالي يمثل عائقا، اذ أن ذلك التصعيد المتواصل هو ما يسبق صفقة أو اتفاقا يحاول كل من الطرفين أن يجعله لصالحه عبر التضاغط العنيف. سوف يفضي التضاغط الأمريكي/ الايراني إلي صفقة لن يدفع الخليج ثمنها، وإنما يدخل في سياقها، وسوف يحسن علاقاته مع ايران ويأمن حلقات المعارضة الشيعية في دوله، ومن جهة أخري سيحاول تأمين نفسه أمام ايران فيشتري، المزيد من السلاح الأمريكي (48 طائرة اف 51 للسعودية مؤخرا)، وربما يكون استمرار النظام في سوريا اذا حدث وسيلة ضمن الترتيب الاقليمي لمنع التمدد الوهابي السني في المنطقة، وهو ما ستسفيد منه ايران. بالعربي هناك صياغة للوضع في المشرق العربي تريد مزيدا من اضعاف العراق لصالح ايران بتقسيمه كما يمهد نوري المالكي. ايران تتمدد غربا كما كانت تحلم، ومصر أو القوة التي كانت تمنع ذلك منكفئة علي تدهوراتها الداخلية، وهي مشغولة بسيناريوهات التقسيم التي تطالع وثائقها الآن بعظيم قلق وانزعاج!