أعجب لمن يتخوفون من استمرار حكم العسكر لمصر، وفي ذات الوقت يقطعون الطريق امام قطار الانتخابات، وهو القطار الذي سيقل مصر إلي محطة الحكم المدني!.. فمن يخشي استمرار حكم العسكر يجب ان يفسح الطريق امام اجراء الانتخابات وبدون تعطيل، حتي ولو كان قانون الانتخابات لا يفي بمطالب جميع الفرقاء السياسيين الذين يعتزمون المشاركة في حلبة التنافس الانتخابي. لاأحد بالطبع ينكر حق البعض منا في الشك في نوايا المجلس الاعلي للقوات المسلحة أو في احساسهم بالمخاوف من ان يوجه المجلس مسار احداث المرحلة الانتقالية بحيث تفضي إلي استمراره قابضا علي ناصية ادارة شئون البلاد.. فهذا الاحساس الذي يجمع بين الشكوك والمخاوف امر طبيعي لان الحكم ظل منذ قيام ثورة يوليو في صورة ابناء القوات المسلحة.. وامل بعضنا رغم مرور اكثر من نصف قرن مازال يتذكر بوضوح احداث مارس 4591 وكيف اصر اغلبية الضباط الاحرار علي التمسك بناصية الحكم ولم يقبلوا عودتهم إلي الثكنات واجراء الانتخابات. كما ان الشكوك والمخاوف هي دائما احدي العلامات المميزة للمراحل الانتقالية، وخلال عملية المخاض التي تسبق عادة ولادة نظام سياسي جديد.. بل ان هذه الشكوك يتبادلها علي نطاق واسع الفرقاء السياسيون المتنافسون الآن علي نصيب في كعكة السلطة الجديدة.. وهو ما يفسر تحول التنافس إلي صراع حامي الوطيس بين بعض هؤلاء الفرقاء. استخدمت فيه كل الاسلحة المشروعة وغير المشروعة مثل اسلحة التخوين والتكفير والطعن في الولاء الثوري. إذن.. الشكوك والمخاوف امر مفهوم ومتوقع في حالتنا هذه.. من غير المفهوم ان يتصرف الذين يثيرون هذه الشكوك ويشعرون بهذه المخاوف بطريقة تحقق في نهاية المطاف مخاوفهم وتحول شكوكهم إلي واقع عملي! ففي البداية رأينا من يطالب باطالة الفترة الانتقالية واستمرار ادارة المجلس الاعلي للقوات المسلحة لشئون البلاد لعامين وثلاثة اعوام.. بينما كان المجلس علي النقيض من ذلك هو الذي يتحمس بتعجيل الانتخابات. ثم عندما تمسك المجلس الاعلي للقوات المسلحة بخريطة طريق المرحلة الانتقالية التي استفتي عليها الشعب وحظيت بموافقة اغلبية عاد البعض ليطالب بتأجيل الانتخابات البرلمانية بضعة اشهر لتجري في نوفمبر أو ديسمبر أو حتي يناير القادم.. وبعض النظر عن ان هؤلاء تناسوا ما طالبوا به من قبل ومسجل بالصوت والصورة علي شاشات الفضائيات فانهم كانوا اوحدهم هم السبب المباشر لتأجيل الانتخابات شهرين حينما استجاب لطلبهم المجلس الاعلي للقوات المسلحة، وذلك في اطار سعيه لإرضاء الجميع.. وبالتالي لم يعد مقبولا عمليا الحديث الآن عن تقصير فترة الانتخابات البرلمانية، ونحن نعرف انها تجري تحت الاشراف القضائي وعدد القضاة لا يكفي لتوفير اشراف كامل اذا جرت الانتخابات في يوم واحد. واخيرا عندما يتجه البعض إلي رفع شعار إسقاط حكم العسكر ويطالبون بانهاء ادارة المجلس الاعلي للقوات المسلحة لادارة شئون البلاد والمرحلة الانتقالية، فانهم بذلك يلقون بمصير البلاد ومستقبلها إلي المجهول.. فمن سيحل محل المجلس في ادارة شئون البلاد، اذا كنا اختلفنا علي تسمية احد في مجلس رئاسي كما اقترح البعض من قبل؟ أليس ذلك سيعزز بقاء المجلس الاعلي للقوات المسلحة فترة اطول في ادارة شئون البلاد؟؟ وذلك في ظل عدم توفر بديل يمكن ان يحظي بالحد الادني من التوافق بين كل القوي والاحزاب السياسية التي تجاوز عددها الخمسين حزبا ناهيك بالطبع عن ائتلافات سياسية يقترب عددها من المائتين. إذن.. بدافع الشكوك وتحت إلحاح المخاوف يتصرف هؤلاء بطريقة تؤدي إلي نتيجة تتناقض تماما مع ما يريدون ويطمحون في الحكم المدني، بل تحول هذه الشكوك والمخاوف إلي امر واقع، وقد تجعل جموع الناس تخرج مطالبة بحكم العسكر، مثلما تطالب الآن بعدم الافراط في المظاهرات. لذلك.. فإن اعدي اعداء الذين يخشون حكم العسكر ويطالبون بحكم مدني هم انفسهم.. تصرفاتهم تدفع في اتجاه اطالة الفترة الانتقالية.. ومواقفهم تخلق رأيا عاما لتأييد الحكم العسكري باعتباره الاكثر حزما لوقف الفوضي ومواجهة البلطجة. وهكذا.. كان اجدي بهؤلاء الذين يخشون حكم العسكر ان يدفعوا في اتجاه اجراء الانتخابات البرلمانية وليس تعطيلها.. وفي اتجاه حماية هذه الانتخابات من البطجية وليس التبشير بالعنف الذي سوف يصاحبها.. وان يركزوا جل جهودهم علي ضمان نزاهة ونظافة الانتخابات البرلمانية القادمة، بغض النظر عن النظام الانتخابي لانه لا يوجد نظام انتخابي مثالي وخال من العيوب. وبدلا من الاستمرار في مصنع الشكوك ونشر المخاوف عبر الفضائيات فلينتشر هؤلاء في القري والنجوع والاحياء الشعبية والعشوائيات لضمان مشاركة اكبر عدد من الناخبين في تشكيل السلطة الجديدة، حتي تأتي هذه السلطة معبرة بالفعل عن كل فئات الشعب وطوائفه وطبقاته وقواه السياسية المختلفة.. فهذا هو الطريق الوحيد لنجاح الثورة في تحقيق اهدافها في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. وحتي اذا كان هؤلاء طامحون بالاشتراك في هذه السلطة فان الانتخابات هي سبيلهم إلي ذلك. وربما لو تذكر هؤلاء انه كان في مقدور الجيش القيام بانقلاب عسكري قبل 52 يناير لانتزاع السلطة، وكانت الدوافع موجودة، ولكنه لم يفعل، لتأكدوا بعد ان تنتهي عملية تسليم السلطة ان العسكر انفسهم كانوا عازفين عن الحكم وان رئيس مجلسهم الاعلي هو المشير كان مع الحكم المدني وضد الحكم العسكري.