أخشي أن يكون بعض ما نشهده الآن من تحركات وما نسمعه من أحاديث وتصريحات يعكس حالة من التربص المتعمد بالجيش!. فحتي لو كان لنا ملاحظات علي أسلوب المجلس الأعلي للقوات المسلحة في ادارة شئون البلاد، وتحديدا في ادارة المرحلة الانتقالية الحالية وعملية نقل السلطة، فإنني لا أجد بصراحة شديدة تفسيرا مقبولا عقليا لعمليات التشكيك الممنهجة والمخططة في نوايا اعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة.. لدرجه اتهام المجلس بأنه يخطط للبقاء في الحكم، وتكرار تجربة الخمسينيات حينما وصل الجيش الي السلطة ورفض ان يتركها.. فنحن منذ اسبوعين نسمع تحذيرات وانذارات تطلق من أجل عدم تأجيل الانتخابات البرلمانية.. بل ان هناك من منح مهلة زمنية تقدر بالساعات لاعلان فتح باب الانتخابات.. واقترنت هذه الانذارات بالحديث الغريب عن تقديم شهداء في هذا الصدد.. كل ذلك رغم ان عجلة الانتخابات بدأت تدور بالفعل.. واللجنة العليا للانتخابات أعدت مواعيد مقترحة لانتخابات مجلسي الشعب والشوري.. والمتبقي فقط تحديد موعده هي الانتخابات الرئاسية. كما اننا نسمع ايضا انتقادات لا محل لها من الاعراب حول طول الفترة الانتخابية.. بل ان مدة هذه الانتخابات أصبحت مادة للتندر والسخرية بالحديث عن انها المرة الاولي التي تقام فيها انتخابات علي مدي شهور، بينما الانتخابات تجري في كل انحاء العالم في يوم واحد.. واذا كان هذا صحيحا بالفعل فالصحيح ايضا اننا استثناء من بين بلاد العالم، لاننا فضلنا اجراء الانتخابات تحت اشراف القضاة، بحيث يكون هناك قاض كل صندوق.. ولان عدد القضاة لدينا اقل من عدد اللجان الانتخابية وصناديقها، فليس أمامنا من حل سوي اجراء الانتخابات علي مراحل.. ثلاثة مراحل.. كل مرحلة سوف تستغرق اسبوعين تحسبا للاعادة بين المرشحين.. اذن طول الفترة الانتخابية امر لاحيلة لنا فيه وبات مفروضا علينا وليس المجلس الاعلي للقوات المسلحة مسئولا عنه او يقف وراءه. كذلك نحن نسمع الآن عن مواعيد مقترحه يتباري البعض في تمديدها لنهاية المرحلة الانتقالية.. البعض منهم شهر فبراير القادم هو الانسب، ومنهم يراه شهر ابريل القادم.. وبالطبع الهدف من وراء الحديث عن تحديد هذه المواعيد هو اثارة الشكوك في نوايا المجلس الاعلي للقوات المسلحة الخاصة في اطالة زمن الفترة الانتقالية.. خاصة ان البعض يقول ويردد كثيرا الان ان المجلس حدد من قبل فترة ستة اشهر لتوليه مسئولية ادارة البلاد ولم يسلم السلطة حتي الان رغم انقضاء هذه الفترة، بل ولم تجر الانتخابات بعد.. وبغض النظر عن أن المجلس حدد فترة الستة اشهر كحد ادني للمرحلة الانتقالية، فان من يتحدثون الان وبهذا الحماس عن تحديد موعد لنهاية هذه المرحلة سبق ان انتقدوا قصر فترة الشهور الستة واقترحوا اطالة المرحلة الانتقالية لعامين علي الاقل!. باختصار.. لايوجد مبرر مقنع يدعو لاي عمليات للشحن المعنوي ضد المجلس الاعلي للقوات المسلحة مثلما يجري الآن.. فمادامت الانتخابات البرلمانية سوف يتم اجراؤها، حتي ولو تمت في ظل قانون لا يحظي بتأييد الجميع فان هذا معناه ان بداية نهاية المرحلة الانتقالية بدأت، وان عملية تسليم السلطة اخذت سبيلها للتنفيذ بالفعل، حتي ولو طالت المرحلة الانتقالية بعض الشيء، او بضعة اشهر، اي لا معني للحديث عن تقديم شهداء او النزول الي الميدان والشوارع مجددا او للتوحد كما يقال ضد العسكر حتي لا يستهويهم الحكم ويحتفظون به الي الابد!. ولا مجال هنا لاستحضار ما حدث في الخمسينيات او استعادة ما فعله الضباط الاحرار حينما رفضوا عودة الجيش الي ثكناته، واستمروا يقبضون علي ناصية الحكم.. لان وقتها الضباط الاحرار حلوا كل الاحزاب السياسية واصطدموا بكل القوي السياسية، واجلوا الانتخابات البرلمانية.. وكلها امور واحداث تختلف تماما عما يحدث الان.. حيث يقوم لدينا كل صباح حزب جديد، ولم يعلن احد من اعضاء المجلس الاعلي تأجيل الانتخابات البرلمانية.. بها علي العكس اعلنوا انهم حريصون علي ان تكون هذه الانتخابات نموذجا في النزاهة والنظافة. ظروف الخمسينيات من القرن الماضي تختلف تماما عن ظروف العقد الثاني من القرن الحالي، وما كان مقبولا ومستساغا وقتها لم يعد هكذا اليوم.. اي اننا لسنا ازاء او في مواجهة مجموعة من الضباط قادوا حركة اطاحت بحكم كان يرون انهم الأحق بحكم البلاد لتنفيذ برنامج حركتهم.. ولكننا ازاء ثورة شعبية شارك فيها الشعب كله بمختلف اطيافه وفئاته.. وانضم الجيش للشعب فيها، حينما اثر اولا حماية المتظاهرين، وحينما تعهد ثانيا بتحقيق المطالب الشعبية وهي تسليم البلاد لسلطة يرتضيها الشعب من خلال انتخابات حرة نظيفة. واعضاء المجلس الاعلي للقوات المسلحة يدركون ذلك تماما ولم يقولوا في أي وقت ما يخالف او يناقض هذا الادراك.. اي ان المجلس الاعلي للقوات المسلحة يعي ان نجاحه في اداء مهمته التي وضعتها الاقدار علي كتفه، وهي تسليم مسئولية البلاد فقط لهذه السلطة التي يرتضيها الشعب من خلال الانتخابات الحرة النظيفة. لذلك.. عندما يسعي البعض باصرار وبشكل يطغي عليه التعمد لاحداث مواجهة مع المجلس الاعلي للقوات املسلحة في هذا الوقت، فان هذا لابد وان يثير التساؤل، ويستدعي التوقف امامه، وقبل هذا وذاك فانه يدعو للقلق.. خاصة اذا كانت بوادر ترك المجلس مسئولية ادارة شئون البلاد قد بدت ملامحها في الافق.. بانتخابات برلمانية لمجلسي الشعب والشوري تحددت تقريبا مواعيد اجراؤها.. ولن يكون بعد اقامتها ثمة مجال لتأجيل او تعطيل الانتخابات الرئاسية، خاصة وان الرئيس القادم يمكن ان يمارس صلاحياته في ظل برلمان منتخب يملك الان محاسبته.. ولا يعني ذلك بالطبع مصادرة حق البعض في الاحساس، بالمخاوف في هذا الشأن.. ولا حتي مصادرة حق البعض في التشكك في ان الجيش سوف يسلم السلطة للمدنيين.. ففي ظل الديمقراطية فان المخاوف مشروعة والشكوك مقبولة ما دامت لاتتضمن تطاولا أو تصل الي درجة التخوين والتكفير. غير أن ابداءالمخاوف لاثارة الشكوك شيء والدفع في اتجاه حدوث مواجهة مع الجيش وصدام مع قيادته شيء آخر مختلف تماما.. نحن لدينا مؤسسة عسكرية ناضجة اتخذت موقفا صائبا ابان ثورة 52 يناير حينما انحازت للشعب.. وحتي لو ادارت قيادة هذه المؤسسة العسكرية المرحلة الانتقالية الحالية بطريقة ليست مرضية كما يكفي لنا، فان هذا لا يدعو ولايبرر ابد اعلان الحرب عليها.. واذا كان البعض الان يتحدث عن التوحد بين كل القوي السياسية، فلماذا لا يتسع هذا التوحد ليشمل الجيش ايضا.