بدون طول تفكير، فإن دراما الواقع الان تتجاوز بكل المقاييس دراما الشاشة التي نشاهدها في رمضان. فدراما الواقع القائم هي انا وانت، حياتي وحياتك وحياتنا التي علي المحك.. هي دراما المصير.. مصير كل الاطراف، بعد انقلاب الاحوال، وما تلا من اضطراب واختلال، والكل في انتظار ما تسفر عنه هذه الدراما الطاحنة، ولا نستثني احدا من هذا الانتطار.. مهما بدا لك الامر علي غير ذلك. وابطال دراما الواقع بلا حصر.. وادوراهم جميعا تحمل توترا بالغ التنوع والتعقيد. ودون ترتيب نبدأ بمن يحاكمون ممن يرتدون الابيض او الازرق. فبخلاف خداع الذات كعنصر درامي ناتج عن تضخم الذات لطول فترة السطوة.. فإنهم رغم ذلك في انتظار.. وانتظار متعدد.. اذ لا ينتظرون فقط ما يحكم به القضاء، بل ينتظرون نتاج ما تجري به المقادير مع تلك الثورة او هذا اللامعقول الذي فاجأهم.. وهم ينتظرون نتائج ما ينجزه من بقي منهم ومن اتباعهم خارج القفص او خارج البلاد مع رهان غامض علي ما يتابعونه من توترات وصراعات وتناقضات نعيشها وحين يتصاعد ذلك الي ازمات وارتباك وخسائر يحسون مع الشماتة بأمل وسعادة.. بمثل سعادتهم لمنظر المحامين عن الشهداء وقد بدا بعضهم كأنما هم مأجورون لحساب القتلة وليس المقتولين »لو صح هذا التخيل لكانت كوميديا سوداء.. سوداء جدا!« وبالمناسبة فإن تلك المحاكمة ستكون ذروة درامية مهمة. بل قد تكون نتيجتها مؤشرا لما سيأتي في تلك الدراما الكبري. ونأتي الي اتباع النظام المطلقي السراح من بقي منهم ومن هرب، وجميعهم يدفع ويحرك الاعوان وقطعان البلطجية، ولكنهم يمارسون ذلك في ترقب وتوجس حتي البلطجية بوضعهم البائس ووعيهم الاشد بؤسا يدخل في ازدياد توحشهم حالة من الرعب مما هو محتمل لمصير دورهم هذا.. اما خدم النظام من النخبة فبعضهم اختبأ خلف الصمت، واغلبهم خلف الخداع والتحول، ومعظمهم كانوا في مواقع حساسة، وبالذات في الثقافة والاعلام بخلاف باقي المؤسسات وهم في تحولهم وتهجمهم علي سادتهم القدامي ينفثون سموم الوقيعة بيننا واثارة الشكوك.. بل احيانا يبدو بعضهم في رهان مع نفسه علي انتكاس هذه الثورة والعودة الي ما كان ولكن بسادة جدد.. فهم لا يجيدون الا دور الخدم.. اذ باعوا حريتهم وكرامتهم إلي الأبد.. وهم في النهاية وغيرهم من جبهة العداء داخل دائرة التوتر والانتظار، بما في ذلك القوي الخارجية- وفي مقدمتهم اسرائيل- تلك القوي التي تعودت ان تملك اجندات واضحة حددوا فيها مصائرنا سلفا بحكم تحكمهم في النظم الحاكمة لكن في تلك المرة تتغير التحركات والحسابات تباعا فلم يعد احد يملك تحديد مصير هذه الدراما مهما فعل، اذ ان مصيرها في الحقيقة صار معلقا بارادة هذا الشعب طالما لا تفلت منه. البطل الثائر الحائر.. في دراما الواقع المراوغ ونحن بذلك امام البطل الاساسي في تلك الدراما.. الشعب وثورته.. انه المحك الصعب لامكاننا تحقيق اهداف تلك الثورة او تفلت منه وخاصة حين يبدو الواقع مراوغا.. ليس بفعل القوي المعادية فهو يحس بانكشافها طالما يري »بوضوح عدوه التاريخي وحليفها الخبيث البغيض- اسرائيل- وانما بفعل ما حل بلحظة التوحد العظيمة لتتحول الي فرقة وتشرذم.. وصراع سياسي واستقطاب أعمي واقصاء.. ثم تقارب في الظاهر.. نتيجة تباعد علي الارض وفي النوايا.. ومراوغة مستمرة ما بين الامرين.. وهو ما جعل غالبية الشعب يكاد لا يفهم حقيقة هذه القوي جميعا.. ويبدو المشهد امامه فاقدا للشفافية، واحيا لفقدان الثقة.. وهو امر خضت فيه كثيرا في مقالات سابقة.. ورغم ذلك ظلت ارادة الشعب مسيطرة بشكل او بآخر، مما دعاني للزعم بانه لا احد يملك تحديد مصير هذه الدراما سوي ارادة الشعب علي حين يملك باستمرار ان يستحضر- عند الضرورة- لحظة التحول النوعي الفريد في التاريخ المصري والتي صنعها بنفسه.. وبمراجعة الشهور الماضية ورغم ما فيها من غموض وارتباك فان المرء يكتشف ان الشعب هو القائد الحقيقي للجماعة بما فيهم القوي السياسية المتصارعة.. بدليل ان مواقف محددة استطاع فيها ان يحول التشرذم الي التئام يفرض نفسه علي الجميع.. واخرها.. محاكمة مبارك.. ثم المواجهة الاخيرة مع ملف مسكوت عنه هو العربدة الاسرائيلية في المنطقة التي طالت عددا من ابنائنا.. مثلما كانت تفعل في العقود التعيسة دون أن تهتز شعرة في النظام العميل او يحس لحظة بالعار والخيانة.. وأياً ما كان الذي سنلقاه في فترة الانتقال العصيبة هذه.. فهذا الشعب لن يفرط في حدث هائل من صنعه وايا كان الثمن.. او المدي والزمن.. او اخطاء المتصدرين المشهد. هنا وقبل ان ننتقل من دراما الواقع الي دراما الشاشة، فهناك دلالة مهمة علي صدق ما نزعم وهي ان البعض يعتقد ان الناس قد شغلتهم شاشات رمضان عن معركة الواقع في تحوله، وهي ان محاكمة مبارك ثم جريمة اسرائيل ورد الفعل العارم- وكلاهما في رمضان- كشفتا ان قلوب الناس واعينهم علي دراما المصير، ومثلما تدور داخلهم الاسئلة حول محاكمة مبارك وما في صدورهم تجاه اسرائيل ودورها فيما حل بمصر طوال عقود- فإن الاسئلة لم تنفك تدور بداخلهم بلا توقف حول مصير الثورة الذي هو مصيرهم، والا ما كانوا هم صناع هذه اللحظة الفارقة. دراما الشاشة.. في زمن المخاض والتحول بقدر ما استطعت كنت اتابع عددا من المسلسلات، وهم ايضا يتابعون.. ولكن.. هل هي نفس العقول والقلوب التي كانت تتابع قبلا؟؟.. لا.. ليست هي.. وان كان تحول غير كامل.. انما هو تغير بدأ.. تجاه ما كان سائدا ومستهلكا في زمن التغييب والتسطيح المتعمد وحسابات التجارة الفجة- وهي سمة عصر بكامله- وبالتالي فنحن امام نوعين من الاعمال.. نوع ينتمي للميراث القديم ونوع ينتمي لعالم جديد يتشكل واري ان اتوقف بالاشارة الي كل ما يبشر بالجديد والجيد حتي لو كان اجتهادا جزئيا او فرديا وليست اعمالا مكتملة في نسقها اوجدتها، وانما هي بشارات بفكر جديد او جيد في الابداع الدرامي، وهو سبيله الي التبلور والنضج، وذلك بالطبع يحتاج الي وقت شأن كل ما نحن فيه بتلك المرحلة الانتقالية، مع ملاحظة ان البشارات بدأت في مرحلة المخاض السابق علي قيام الثورة وبالتالي هناك من »الاسماء والاعمال« ما سبق كل ما نشير اليه الان.. بل ان ما نشاهده في هذه الاعمال الان كتب في معظمها قبل قيام الثورة. في مجال الكتابة الدرامية: توقفت باهتمام عند »محمد الحناوي« في خاتم سليمان، و»اسامة نورالدين« في شارع عبدالعزيز، و»عمرو الدالي« في دوران شبرا.. ثلاثة كتاب جدد لكل لغته الفنية التي تميزه.. وان جمع بينهم نزوع واحد الي دراما مختلفة. في مجال الاخراج: كان من بشاراته القوية »احمد يسري« في شارع عبدالعزيز و»خالد الحجر« في دوران شبرا، و»احمد خالد« في ابواب الخوف، ويظل »احمد عبدالحميد« ممتلئا بالرغبة في تجديد اسلوبه حيث يبدو في خاتم سليمان متقدما علي اعماله السابقة والقليلة وفي مستوي طموح هذا العمل. ولا انسي »شيرين عادل« في الريان و»حسني صالح« في وادي الملوك بجهدهما المتقن وان ظل تقليديا يكرر ولا يطور ما سبق ان قدماه. في مجال التمثيل: فوجئت بكم ضخم من الشباب والشابات الجدد متواجدين بقوة في الشوارع الخلفية ودوران شبرا وخاتم سليمان ومشرفة واعمال اخره، ووجدت فيهم من يملك حسا جديدا متطورا في الاداء، وهم بذلك ينضمون الي الجدد في الكتابة والاخراج، ليمثلوا معا رصيدا مدخرا للدراما المصرية المنتظرة حين تستكمل مراحل تحولها. وهذا لا ينفي ان في الاجيال السابقة من يمثل ايضا جزءا ثمينا في هذا الرصيد لفن التمثيل.. فثمة فرسان يتقدمون نحو الصدارة بخصوصية وثبات: »خالد الصاوي« في خاتم سليمان، »خالد صالح« و»باسم سمره« في الريان، »عمرو سعد« في شارع عبدالعزيز.. ويسبقهم زمنيا »مجدي كامل« في وادي الملوك وبنفس العمل »سمية الخشاب« و»كمال ابورية« و»صابرين« في لحظة ميلاد، وفي الجيل الاقدم مازال »نبيل الحلفاوي« يكشف عن مناطق جديدة في موهبته الراقية، في وادي الملوك الذي تتصارع به ايضا حيوية »لطفي لبيب« وكذلك »صلاح عبدالله« في الريان ليكونا علامة في جيلهما. وتظل »ليلي علوي« في الشوارع الخلفية موضع احترام لحسن اختياراتها وفهم المتغيرات. ايضا فان »ريهام عبدالغفور« تستحق اشادة خاصة للتنوع والاجادة المتطورة في كل ما قدمته هذا العام.. وقد كنت اشك في موهبتها عند البدايات! اعمال جديرة بالتقييم النقدي المنصف: والتقييم المنصف قليل، مثلما ان عدد تلك الاعمال هو الاقل بالنسبة لما عرض هذا العام، وجزء منها تقليدي لكنه يتميز بخصوصية موضوعه واتقان صنعه اجمالا، ومنها الطامح للتجديد. وافضل الاشارة اولا الي عملين ظلما كما جرت العادة في زمن التجارة »انا القدس« وهو عمل تم تجاهله تماما رغم دقته تاريخيا واهميته فنيا وانتاجيا، و»مشرفه« الذي تم نفيه في توقيت وقناة بلا مشاهدة برغم اهميته البالغة. اما الاعمال الاخري التي اعنيها فوجدت فرصة كبيرة في الاغلب لمشاهدة واسعة وفي صدارتها »خاتم سليمان«، »شارع »عبدالعزيز«، »دوران شبرا«، »الشوارع الخلفية«، »عابد كرمان«، »وادي الملوك«، »الريان«.. وكلها تحتاج الي القاء ضوء نقدي منصف عليها بما يزكي القيم الصحيحة في وعي المتلقي دعما للدراما كما نرجوها في وجه التيار التجاري الذي مازال ماثلا في الدراما والبرامج ايضا ولن ينزاح بسهولة. ولست بصدد تقديم رأي نقدي من جانبي لها الان ولكني استثني من ذلك الاشادة التي لا تؤجل- بما قدمه »عبدالرحمن الابنودي« في صياغة حوار وادي الملوك. فليس ما يميزه فقط هذا العمق والشجن والشاعرية الغامرة، وانما ايضا درامية اللغة واشتباكها الحي بطبيعة الموضوع وبيئته وايقاع الاحداث.. انه صعود لذروة جديدة في انجاز هذا الشاعر الكبير وان لم يكن العمل الاول له دراميا ثم اكتفي بوقفه مع »الحسن والحسين«. وإلي الأسبوع القادم نواصل.