من منا لم يستمتع بقراءة المغامرات البوليسية وهو صغير؟ الحقيقة ستكشف أن أغلبنا اتخذ من بعض السلاسل البوليسية مدخلا لبداية نشأة العلاقة بينه وبين فعل القراءة ، خاصة وكاتبها يراوغنا في كشف تفاصيل الجرائم من أجل احتكار فن الذكاء، وفن استثارة تفكيرنا في اتجاهات متضاربة وغير متوقعة تماما لنتمادي في توجيه الاتهام لشخص ما ثم سرعان مايكشف لنا عن براءته كي ينفرد وحده في الصفحات الأخيرة من الرواية بكشف اللثام عن القاتل الحقيقي الذي "دوخ" رجال البوليس والمحققين الأفذاذ .. وليثبت لنا أنه وحده يملك نهاية قصته. ومعني هذا أن هناك فضولا إنسانيا يجعل الإنسان بفطرته محققا ومغرما بالتوقع وبالوصول للحقيقة، ولكن هذا الخيال الروائي لايمنحه القدره علي اغتصاب الحق من أهل الاختصاص ! ومن المؤكد أن غموض الجرائم والتعرف علي دوافعها أو مصائبها أوفضائحها بكل تفاصيلها وأحداثها وملابساتها وأبطالها خاصة إذا كانوا من الأشخاص المعروفين علي مستوي المجتمعات أو المشاهير أو الفنانين أو الأغنياء أورجال السلطة أو المهن الراقية ظل يستأثر بعقول كل القارئين أو السامعين ثم جاءت شاشات الفضائيات لتثير ولعا جديدا بمثل هذه القصص التي تخطف عيون كل المشاهدين علي اختلاف أعمارهم أو جنسياتهم أو أسلوب تنشأتهم وهو مالاحظناه ونحن نتابع التغطية التنافسية واللاهثة جدا التي صارت تحظي بها الجرائم والتفاصيل المرعبة والأدوات التي استخدمت فيها والتصريحات المبدئية التي يطلقها رجال الشرطة والتحقيقات وصرخات أهالي الضحايا ، حتي أن المتابعات الشرسة انتقلت إلي أروقة المحاكم لنستمع إلي تنابز المحامين بالتهم ، وتشكيك أهل القتلة في الضحايا وتلويث ذمة الأبرياء من المحللين الجالسين في استوديوهات الفضائيات ممن يملكون نفوذا أو سلطة أو ممن يصلون بصورة أسرع للمحقق التليفزيوني ، أو حتي للمؤلف الدرامي الذي يسارع هو الآخر لمزاحمة الآخرين لقضم نصيبه من الكعكة!. ينصب كل من هب ودب من نفسه قاضيا رغم غياب الأدلة وانعدام الأحقية وعدم امتلاك ناصية العدالة .. فإذا ظهر متهم رحنا" نمرمغ" في الأرض سيرة كل من شملتهم المأساة من الضحايا وأهل المتهم ممن لا ذنب لهم ، ونكشف المستور من حياتهم دون رحمة متناسين حقوقا وقيما وديننا ، أما إن ظهرت براءة المتهم رحنا جميعا نشكك في القضاة والعدالة ونزاهة التحقيقات ولتبدأ السهرات العائلية وجلسات النميمة وحوارات النشء في تداول وقائع إجرامية دون حساب تأثيرها علي ذوي النفوس الضعيفة، بل وقد تلفت الانتباه لكيفية تنفيذ الجرائم! وليس معني هذا أن نحجب القضايا وأن نغمض العيون عن التوسع الإعلامي في نشر الحوادث ، ولكن أن نعود لمقصدنا الأول من النشر وهو كف الأذي والعنف عن المجتمعات ، وإظهار النهاية البشعة للمجرمين وتأكيد أن الجريمة لاتجدي ، وإثبات أن العدل سيظل قائما.. لقد تعلمنا من أساتذة الإعلام ومن ميثاق الشرف الصحفي قواعدا ثابتة .. منها أن المتهم برئ حتي تثبت إدانته، وأنه ليس من حقنا التشهير بالحياة الخاصة للناس ، وأن علي كل مهني شريف أن يضع نفسه في موقف الذي يتناول سيرته أو قصته أو جريمته بالعرض الجائر ! مسك الكلام .. الإعلامي إن فقد الخيط الرفيع بين لذة القول ومصداقيته .. فقد نفسه !