ليس من الواضح في الافق ان تتفق القوي السياسية المختلفة من تلقاء نفسها علي كلمة سواء لانهاء الجدل المثار حاليا بين من يتخوفون من اجراء الانتخابات البرلمانية اولا في موعدها المقرر في شهر سبتمبر المقبل، ليتم الشروع بعدها في بناء الدستور الجديد للدولة. كما يقضي بذلك الاعلان الدستوري الصادر بعد الاستفتاء الذي جري يوم 91 مارس الماضي ووافق خلاله 77٪ من المشاركين علي التعديلات الدستورية التسعة.. وبين هؤلاء الذين يصرون علي ضرورة الالتزام بالتسلسل والترتيب الذي حددته التعديلات التي وافق عليها الشعب علي النحو المتقدم.. حجة كل طرف وجيهة، وتباري الكل في شرح موقفه عبر الفضائيات والصحف، وفات الجميع ان المخاطر قائمة في كلتا الحالتين، وأصل المشكلة اراها ليست في الدستور اولا او ثانيا.. أصل المشكلة ظهر وبوضوح شديد في الايام التي سبقت استفتاء 91 مارس الماضي وتمثل في التوظيف الديني الخاطيء لعملية التصويت علي التعديلات الدستورية حين ظهرت اصوات تؤكد ان التصويت ب »نعم« يعني الحفاظ علي بقاء المادة الثانية من الدستور.. رغم ان هذه المادة لم تكن مطروحة وليست مثارا للحديث من قريب او بعيد.. وامام الحديث عن »غزوة الصناديق« ثارت مخاوف جدية وحقيقية لدي الطرف الاخر الذي اعتبر ان معارضته للتعديلات بمثابة وضع »فرملة« للمارد الديني الذي امتطي صهوة الثورة ولم يكن من صناعها الاصليين منذ البداية. ما نحن فيه الان هو النتيجة الطبيعية لخطأ وقع ولم يجد ما يستحقه من العلاج، وكان الله في عون المجلس العسكري الذي آلت اليه شئون الحكم عقب تنحي الرئيس السابق يوم 11 فبراير الماضي، لان اي قرار سيتخذه هذا المجلس للخروج من هذا المأزق لن يكون بأي حال محل رضا اي طرف.. اذا تفهم المجلس مخاوف المطالبين »بالدستور اولا« سيتهم بأنه قد تحدي ارادة الجماهير التي عبروا عنها في استفتاء حر ونزيه رغم ما سبق هذا الاستفتاء وصاحبه من اخطاء فادحة تتمثل في توظيف ديني لم يكن له اي محل من الاعراب.. واذا احتفظ المجلس بموقفه الحالي الداعم لمراحل التحول السياسي كما جاء في وثيقة الاعلان الدستوري ما وجد نفسه في مأمن من انتقادات ومخاوف مشروعة ومنطقية مما يمكن ان تسفر عنه الامور من وضع دستور للبلاد عقب تنافس انتخابي. يجب ان يدرك اعضاء فصيل »الدستور اولا«.. ان القضية ليست في ان تجري الانتخابات في موعدها او تؤجل لمدة 3 او 6 شهور بدعوي ان تصل الاحزاب الجديدة للمرحلة التي تكون خلالها مؤهلة لخوض المنافسة في الشارع، وان التمسك بهذا المطلب او التهديد بمقاطعة الانتخابات القادمة قد يغرق البلاد في ازمة سياسية عميقة قد لا تختلف في قليل او كثير من تفاصيلها عما شهدته العراق مؤخرا من مأزق سياسي ضرب الرقم القياسي في بقاء دولة بلا حكومة لمدة اقتربت من 9 شهور بسبب الصراع الحاد بين ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، والقائمة العراقية بزعامة اياد علاوي.. واعتقد ان شيئا من هذا لا يرضاه اي مصري حريص علي استقرار بلده. وعلي الجانب الاخر يجب ان يتفهم المؤيدون لمبدأ »الانتخابات اولا« المخاوف الحقيقية التي تساور شريحة لا يستهان بها من المصريين، وبصراحة شديدة نقول ان هذه المخاوف تتمثل في امرين: الاول: اكتساح التيار الاسلامي بكل فروعه وطوائفه. الثاني: ويتمثل في هيمنة هذا التيار علي عملية اختيار او انتقاء اعضاء اللجنة التأسيسية التي سيتم تشكيلها لوضع الدستور الجديد من بين اعضاء مجلسي الشعب والشوري المنتنخبين وخاصة ان تشكيل هذه اللجنة سيخضع للانتخاب الداخلي بين نواب المجلسين، ومن المعروف ان الانتخابات وان كانت تمثل آلية ديمقراطية في جوهرها ومظهرا إلا انها قد لا توفر بالضرورة ضمانة جادة للتمثيل العادل لجميع مكونات المجتمع، ويرتبط بذلك الامر حرمان كفاءات لها قيمتها من المشاركة قد لا تكون الانتخابات هي الالية المناسبة للوصول لها ومنحها الفرصة.. ان من يطالبون باحترام نتائج الاستفتاء باعتباره يمثل رأي الاغلبية التي وافقت عليه بنسبة 77٪ يجب ان يدركوا ايضا ان الديمقراطية الحقيقية هي التي تحترم التنوع وتقر بالتعدد ولا تلجأ للاستقواء بمفهوم الاكثرية في مواجهة الاقلية. والحل اراه في حوار يدعو اليه المجلس العسكري بين ممثلين من جميع التيارات السياسية، يتم التوافق خلاله علي مباديء اساسية.. ولا يكون ذلك من خلال وضع مواد فوق دستورية لان تلك مسألة قد تثير في حد ذاتها اشكاليات قانونية.. انما هو محاولة للتوافق علي مجموعة من المباديء الملزمة التي يمكن ان يصدر بها مرسوم بقانون من المجلس الاعلي للقوات المسلحة لتضاف الي الاعلان الدستوري وتكون مكملة له من اجل ازالة المخاوف ذات الصلة بوضع الدستور الجديد وتشكيل اللجنة التي ستتولي صياغته.