تشي الأنباء التي ترد لنا تباعا عن رئيس الوزراء الأستاذ الدكتور عصام شرف بأن حالته العصبية ليست علي مايرام. إذ قدم لنا الرجل - مؤخرا- عددا من التابلوهات السياسية الاستعراضية، فيها من التقلص الإداري بأكثر مما فيها من القرارات المقنعة والمبررة، فضلا عن أن آلية اتخاذ مثل تلك القرارات- حتي ان لاقت هوي عند البعض- ليست مدروسة، وإنما جاءت تعبيرا عن هيجانات عصبية وشخصانية تومئ إلي تفضيلات رئيس الوزراء، أو شعوره بأن مشروعه، أو تصريحاته المتضاربة جدا فقدوا المصداقية تماما عند جماهير الناس، التي لم تعد قادرة علي بلع المشاهد التمثيلية التي يؤديها رئيس الوزراء مدعيا الإفراط في البساطة والتواضع. في أيام قليلة أصخنا السمع إلي تصريح الأستاذ الدكتور يحيي الجمل نائب رئيس الوزراء يوم الأربعاء 12 يونيو، قائلا إنه قدم استقالته إلي رئيس الوزراء فقبلها الأخير إلا أن المجلس العسكري رفض تلك الاستقالة.. ثم سمعنا عن قبول الأستاذ عصام لاستقالة الدكتور علي الغتيت من رئاسة المجلس الاستشاري في الحكومة، والذي أتبعته بسرعة مدهشة »جاءت من حكومة - بطبيعتها- متعثرة ومتلكئة« عملية تصفية لجان ذلك الهيكل الاستشاري، وكأننا بإزاء حرب تحرير يقودها أتابك عسكر أمير البر والبحر عصام شرف. القصة فيها تفصيلات كثيرة كلها مسارات توصلنا إلي نفس النتيجة وهي أن عصام شرف فقد أعصابه بعدما فقد مصداقيته.. وقد اخترت أحد مشاهد التابلوه السياسي الاستعراضي الذي يقدمه الأستاذ عصام في اللحظة الراهنة، لأنني رأيته جديرا بالقراءة النقدية والمناقشة، ألا وهو مسألة استقالة الدكتور يحيي الجمل، وأختزل رؤيتي لتلك الواقعة في النقاط التالية: أولاً: لابد لنا ان نستبعد الجوانب العاطفية الحارة التي غلفت الأمر، والتي حرص الدكتور يحيي الجمل أن يعلن بها الناس، ومنها: »إن العلاقة بيني والدكتور عصام أكبر من كل شئ« أو »ان الدكتور عصام شخص حنون بشكل غير عادي«، إذ أكتب اليوم عن مسألة سياسية بحتة، ليس فيها - بالقطع- مجال للحب والوجد والعطف والحنان، ومثل تلك التعبيرات التي حاول بها الدكتور يحيي الجمل- كريما- أن يخفف وطأة تصرفات عصام شرف وعصبيته، ورغبته في التضاغط مع من لن نسمح له - جميعا- بالتضاغط معهم.. وأضيف- هنا- ان اخبار الخلاف مشهورة وذائعة عندنا جميعا، ومن ثم لا معني لتجميل الحالة أو افتعال الترطيب. ثانياً: من الأمور التي يتوقف أمامها المرء- طويلا وكثيرا- إقدام الأستاذ الدكتور رئيس مجلس الوزراء علي خطوة قبول الاستقالة من دون الرجوع إلي المجلس العسكري، فالأمر ليس بسيطا لأن الأستاذ الدكتور يحيي الجمل- حتي مع بعض انتقاداتنا له أحيانا أو غضبنا منه أحيانا أخري- هو نائب رئيس مجلس الوزراء، وليس باشكاتب في مصلحة حكومية يمكن رفته بتلك السهولة الغريبة التي أصدر بها عصام القرار! وفضلا عن أن الدكتور يحيي الجمل يحتل موقع نائب رئيس الوزراء، فهو - أيضا- قيمة علمية ومهنية كبيرة، وهذا ما حرصنا علي كتابته وتدوينه، حتي في المقالات التي انتقدناه فيها. ثانياً: سبب الاستقالة يخص الدكتور الجمل، وهو ما يمكن ان يفصح عنه في التوقيت الذي يراه، ولكن التصريح إعلاميا بالحكاية كلها »الاستقالة+ قبول رئيس الوزراء لها+ رفض المجلس العسكري« كان- في تقديري- تصرفا غير مضبوط، لأن اعلان الدكتور يحيي يترتب عليه إثارة تيارات كلامية عديدة، نحن في غني عنها اللحظة الراهنة، وأولها طبيعة العلاقة بين عصام ونائبه، والتي تناهي إلي أسماعنا- في الفترة الماضية- الكثير من تفاصيلها. ونحن لدينا - بالقطع- أسباب لانتقاد الدكتور الجمل، منها - مثلا- ما نشرته جريدة روزاليوسف عن قيام مكتبه بالترافع في قضية سياج، فيما يشغل الرجل منصبا حكوميا رفيعا، وهو ما يدخلنا- فورا- في قضية تعارض المصالح التي لطالما دمغنا بها حكومات النظام السابق، وأعضاءها. ونحن لدينا- بالقطع- حزمة مروعة من الأسباب لانتقاد رئيس الوزراء عصام، أولها كون سيادته أحد أركان المجلس الأعلي للسياسات في الحزب الوطني المنحل، فيما سلت نفسه كالشعرة من العجين مدعيا انه جاء من التحرير، وانهمك في جمع بعض من شباب الثورة بالذات بغرفة تجاوره، ليشورهم في قراراته وسياساته وتوجهاته، الأمر الذي أثار قلقا عاما حول المعايير المهنية والسياسية التي تحكم أداءه. نعم لدينا أسبابنا في الانتقاد المزدوج، ولكنها - بالقطع- ليست الأسباب التي من أجلها حدثت واقعة الاستقالة، وقبولها، ثم التراجع عنها. والحقيقة أن الدكتور الجمل- مهما كانت انتقاداتنا له- كان فلاحا شهما في تصريحه، مشيرا إلي رئيس الوزراء بوصفه: »صديق« ومتجنبا مزيدا من الخوض في أسباب الخلاف أو الاختلاف.. ولكن الاعلان نفسه- في تقديرنا- لم يكن من حُسن الفطن لأنه يضع رئيس الوزراء عصام في مأزق كبير، ويجعل منه هدفا لأسئلة كثيرة شغلت وتشغل الرأي العام في بلدنا، وينبغي عليه.. نعم ينبغي عليه ان يجيبها طالما فضح الدكتور يحيي الجمل الحكاية التي تعد مشهدا مهما جدا يشرح الحالة السياسية الراهنة. وضمن تلك الأسئلة وأهمها- مرة أخري- لماذا لم تستطلع رأي المجلس الأعلي يا عصام، وهو صاحب السلطتين التنفيذية والتشريعية حتي إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فيما تهتم باستطلاع رأي شباب »لاصفة لهم حتي في تمثيل كل قوي التحرير« في أمور حكومتك؟! ما هو الموضوع أو الموضوعات التي أثارت خلافا بينك وأستاذنا الدكتور يحيي الجمل؟.. هل هي خلافات شخصية، أم عامة؟ وإذا كانت عامة أفلا تري ضرورة لاخبار الشعب، طالما أنباء الخلاف شاعت وذاعت، وصار الموضوع علي عينك يا تاجر؟ وإذا كان الدكتور يحيي الجمل تحلي بالشجاعة الأدبية وأعلن عن الواقعة، »رغم اعتراضنا علي ذلك«، أفلا يري رئيس الوزراء الذي يطرح نفسه بطلا في مشهد الحياة المصرية- الآن- مثل الكونت دي مونت كريستو، ان يتحلي بنفس الشجاعة، ويخبرنا شيئا عن تلك الواقعة، ولو من باب الشفافية، التي صارت مُضغة يلوكها ذلك المسئول من دون ان تعني له شيئا؟! هل كانت ضغوط الدكتور عصام علي الدكتور الجمل، والتي افضت إلي استقالة الأخير، ضغوطا منسقة تستهدف الوصول إلي تلك الغاية بالذات، أم كانت رسالة إلي بعض القوي التي تريد اقصاء الدكتور الجمل في التحرير؟!، وما هي فائدة وجود الشباب الذين اصطفيتهم يارفعة رئيس الوزراء في الغرفة المجاورة إن لم يعبروا عن قواعدهم في الميدان، وبخاصة مع ما نقرأه هذه الأيام من مطالب قوي شبابية أخري بتشكيل حكومة ظل لمراقبة حكومتك السنية؟! تضاغط الناس مع الدكتور يحيي الجمل هو تعبير عن خلاف موضوعي، فالرجل يمثل وجهة نظر، والأطراف الأخري تتبني آراء مغايرة، فيما الخلاف مع الدكتور عصام يدور في المطلق، فنحن بإزاء رئيس حكومة لا نعرف ماذا يفعل، وما يصل إلينا من اجتماعاته مع بعض اصدقائه من الاعلاميين والصحفيين، أو تسريبه لاخبار أو معلومات بعينها، بغية خلق رأي عام حول ملف أو موضوع بالذات، أو صرف النظر عن شخصه وبعض جوانب القصور والتقصير في أدائه، يثير لدينا أقصي درجات القلق لأننا لسنا في مرحلة تتحمل مثل تلك الأساليب.. فهل يعرف عصام آراءنا تلك؟ وهل يتصور ان اخباره السرية التي أمعن بناء سواترها، تصل إلينا بهذا الوضوح والانكشاف والكثافة؟! نحن لا ندافع عن الدكتور الجمل، ولكننا نقول عن ذلك التابلوه السياسي الاستعراضي بالذات: »إما أن يلتزم الجميع الاحتشام الاداري، ولا يعلنوا علي الملأ ما خفي من أمر الخلافات والتضاغطات والصراعات داخل مجلس الوزراء، وإما ان يخبرونا تفاصيل أخبارهم، وبوجهات النظر المختلفة. وقد اختار الدكتور الجمل أن يخبر الرأي العام، وهو أسلوب - للمرة الثالثة- لا نقره في هذه الظروف التي نمر بها، وإن كان فيما فعل جانب ايجابي فهو احترامه وتوقيره لحقوقنا المعلوماتية، ولمؤسسة الرأي العام. أفهمت يا عصام.. يا صاحب المقام الرفيع؟!