لا شك ان الفساد الذي عانيناه سنوات طويلة يعود الي غياب دولة القانون. وقد اثبت المصريون من خلال ثورتهم العفوية عزمهم علي التخلص من الظلم والاستبداد والكذب والتزوير، واستشهد من اجل مصير هذا الوطن صفوة المصريين. ومن حق هؤلاء علينا اليوم ان نستوضح معالم الطريق الذي نخطو عليه، وان نتأكد اننا لسنا متجهين نحو عهد جديد مظلم من الخداع والاستبداد متحليا في عباءة بيضاء. خاصة أن بيننا من يميلون إلي تسليم أمورنا إلي من يدغدغ فطرتهم ويزعم انه يسلك طريق الله بينما هو في الواقع يصبو إلي السلطة. اذ نجد اليوم علي الساحة من يأسسون احزاباً "ذات مرجعية دينية" للتحايل علي تجريم "الاحزاب الدينية"، ومن ينادون بدولة "مدنية ذات مرجعية إسلامية" تحايلا علي الرفض العام لمبدأ "الدولة الدينية". وهنا نجد انفسنا امام سؤال ملح ازاء هذه السفسطة، وهو عما اذا كانت تعبر عن فروق فاصلة او حتي نسبية، ام نحن نبتدع مسميات لنسمح من خلال ابواب خلفية بما نعلن رفضه؟ ان الدولة في العصر الحديث مدنية بطبيعتها، بمعني انها تقوم علي اساس قانون مدني يحسم الصراعات وينظم العلاقات بين الافراد والمجتمع ككل. فباستثناء بعض الدول المعدودة مثل ايران او المملكة السعودية التي يستمد الحاكم السلطوي فيها شرعيته من اعلانه البراجماتي، اي النفعي، بالالتزام بالمقدسات - لا تُنظم الدولة الحديثة بحكم الدين نظرا للالتزام العالمي بحق كل انسان في المواطنة بصرف النظر عن عقيدته او انعدامها. ومن يدعي ان هناك دولا اوروبية تُحكم بواسطة احزاب دينية فهو مخطيء. فالحزب المسيحي الديمقراطي في المانيا لا يستمد سياساته او مشاريع القوانين التي يطرحها من احكام الدين المسيحي بل يدعي الاسترشاد بمبادئ المسيحية الاخلاقية، في حين ينحاز في الواقع الي مصالح الطبقة الرأسمالية. بينما يتبني منافسه الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني سياسات ادت الي تحقيق قدر اكبر من التكافل الطبقي والعدالة الاجتماعية في المانيا، وهي المباديء التي تنص عليها جميع الديانات السماوية. ومن هنا تتأتي ضرورة ادراج هذه المباديء بعينها في نصوص الدستور الاساسية. كما أن هناك بالفعل دساتير تنص علي انتماء الحاكم لديانة او مذهب الاغلبية، ولكنها لا تتضمن ما ينص علي ان يكون الدين هو مصدر التشريع. ومن هنا علينا ايضا ان نواجه مجموعة اخري من التساؤلات، الا وهي: هل الاسلام مذهب سياسي كفيل بتقديم الحلول لمشاكلنا المتعلقة بالتعليم والصحة والزراعة والتصنيع والتجارة وموازنة الدولة والحد الدني للاجور والديون الخارجية والعلاقات الدولية وغيرها من المسائل؟ ام هو دين حنيف يثقل الخُلق ويثري النفس ويتقرب الفرد من خلاله لخالقه الذي له وحده عز وجل ان يحاسب عبده علي طاعته؟ هل سيقبل حزب اغلبية يحكم بإسم الاسلام بالرأي الآخر ام سيؤسس نظاما سلطويا جديدا؟ وهل تًُعقل معارضة من يحكم باسم الله؟ وان سمح بالجدال من باب التحلي بالديمقراطية، هل سنحسم خلافاتنا السياسية من خلال الجدل حول تفسير النصوص الدينية الذي تختلف حوله التيارات الدينية المختلفة، بل المنتمون الي مجموعة واحدة، وفي كثير من الاحيان الأئمة الذين يستندون اليهم؟ واخيرًا لماذا نجعل ما يحكم علاقة الفرد بخالقه هو مصدر التشريع الرئيسي في دولة تصبو الي الحرية، التي لا يتجزأ عنها مبدأ حرية الرأي والعقيدة؟ وماذا عن حقوق المصري المسيحي او المصري غير المؤمن في المواطنة؟ ان المنطلق الالهي المطلق يقرحرية العقيدة، اذ يقول الله تعالي في كتابه العزيز: "لا إكراه في الدين" (البقرة:256) و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف:29). ثم ما الذي يكفل لنا ان الاستناد الي مباديء الشريعة الاسلامية لن يتعدي "المباديء" وما تقبله عامة المصريين وانه لن يصل الي توقيع الحد - وقد افصح احد قيادات جماعة الاخوان صراحة عن هذه النية في حين آخذه الآخرون منهم علي صدقه وتعجله- اذا استحوذت علي السلطة التشريعية مجموعات تعلن الطاعة لله، بينما تدين بالقسط الاكبر من ولائها لمن يشاركونهم ايديولوجيتهم من خارج مصر قبل ان تدين بالولاء لغيرها من مواطني مصر؟ ولعل ابسط الشواهد دلالة علي ذلك هو مشهد إقصاء شباب الثورة من علي منصة ميدان التحريرليستحوذ عليها الشيخ القرضاوي. لقد افصح القيادي الاخواني صبحي صالح عن فكر الاخوان في مؤتمر شعبي عندما وصف الاخ الذي يتخذ من غير الاخوات زوجة له بانه "فلوط، وليس رجلا، وانه يتزوج من علي الرصيف". وفي هذا السياق يصعب تجاهل السلفيين الذين يشنون من منابر الجوامع والزوايا التي يغتصبونها حربا نفسية لترويع المواطنين، بعد ان اعلنوا انهم سيفسحون الطريق الي البرلمان في الانتخابات التشريعية القادمة للاخوان الذين يتمتعون بقدر اكبر من الحنكة السياسية. فتتجلي ملامح تحالف قوي لا يخفي علي من له آذان، ويتبين توزيع الادوار بين متطرف ووسطي من اجل التربع علي الحكم . ان كل هذه الممارسات الازدواجية والانتهاكات السافرة لأمن المواطنين وهيبة الدولة تقطع اواصل الوطن، لتجرفه بعيدا عن مسار الثورة واهدافها النهضوية ولن يضع لها حد سوي ارساء قواعد دولة القانون وتطبيقه من خلال سلطات الدولة الحازمة لضمان حماية ومحاسبة جميع المصريين عل قدم المساواة. ان ما حدث في بلدان مثل يوجوسلافيا من مذابح اهلية وتفتيت للوحدة القومية علي اساس الديانات لمثال واضح ورادع للهاوية التي سننزلق اليها،اذا لم نفصل بين الوطن الذي هو للجميع والدين الذي هو لله وحده. لقد آن الأوان لوضع ضوابط لما يسمي بنشاط الدعوي والشروط لمن يمارسونها لضمان عدم تفشي الغوغائية والفتن، والفصل بين الخطاب الديني والسياسي من خلال قانون ينص صراحة علي ذلك، وعمل الدولة علي احترام القانون وتطبيقه من خلال أجهزتها الرقابية والامنية والقضائية.