أكاد اسمعها من البسطاء الصامتين الذين يصيبهم نزقة السياسة المستخفون في أردية شتي بالذعر اليومي، قوتهم الصبر علي كل شئ، حتي علي أولئك الراكبين أمواج الزحف الي مصيرنا المجهول. وأظن أن غموض المرحلة يدفع بعنف إلي ذلك المصير الذي لا أرجوه لبلادي ولا هؤلاء البسطاء يتصورونه، إلا أنهم بصمتهم يدينون الذين يرغون ويزبدون باسمهم وباسم ثورتهم، فهل تحول فعل ثورة الشعب إلي كلام، وهل يستقيم أن تتبدد غضبه الثائرين في »مكلمات« وصخب وضجة بغير طحين. وقد يكون في هذا الذي نري عبرة للثائرين ومن صان ثورتهم حتي أتت من فضاء الحلم الي أرض الواقع لتصبح حقيقة يتحدث بها الركبان، والذين صانوا الثورة هم في الحق ثوار من قلب الشعب وضميره، وإني لاربأ بهم من أي شبهة تحوم حول نواياهم الخالصة وعملهم العظيم، إذ رفع مصر في أحضان التاريخ السابح سبحاً طويلاً في كل أرجاء الارض، ومهد لدولة جديدة عالية سوف يأتيكم خبرها بين المشارق والمغارب بأن مصر المسجونة في الأمس، ما عادت اليوم الا مارداً سوف تعرفون إلي أي مدي سينطلق بأبناء الكنانة. إن في مصر عمقا شعبيا خرج عن صمته ليؤازر الثورة ويحميها ويؤكدها كما لو أنها ضميره الأزلي، وبعد أن أطاح بجباره وأعوانه، وسقط في يده ليكون عبرة لكل القادمين من أجيال، يرونه رأي العين معذباً وذاهلاً كذهول يوم الساعة، هذا الشعب عاد إلي صمته مرة أخري بفعل اللاعبين بالنار علي اختلاف أهوائهم ومشاربهم وهم يتدافعون إلي المنصات وإلي الميكروفونات تحوطها الكاميرات من كل جانب، فهل يدرك هؤلاء أن الشعب يراهم من أعلي نقطة للرؤية والمشاهدة، نعم شاهدون عليهم جميعاً يا وطني أنهم يفعلون ذلك في وضح النهار، لا يردهم وازع من ضمير ولا رادع من قرآن أو إنجيل، فهل أخفت ملامحهم الحقيقية تلك الأشياء الشكلية التي تزينوا بها وخرجوا عن الأعراف بدعواهم، وهل ما أدركوا حتي هذه اللحظة ان الشعب الصامت الحزين. من بعيد أو قريب يراهم، فإذا كانت قسمة فإن الشعب هو الذي قام بالثورة، وهو الشعب الذي ذاق الهوان ولم يشترك في أي صفقات أو مراهنات أو عمل لدي هذا الجبار »محللاً« لكل أفعاله الشنعاء. بلي قد زوروا إرادته وغيبوه وألهوه في متاهات القوت وعذابات مالها من آخر كانت تعد له إعداداً، كان في صمته الأول مجبرا ومكرها وكان في حزنه يجتر أساه ولا يجد إلا الصبر فأصبح كل مواطن مصري شجرة صبار لوحدها لا يقتلها ظمأ ولا يرويها كذب ولا يفتنها عن تقواها هؤلاء الذين في كل يوم يقتاتون الملايين علي جراجها وتصطك كؤوسهم المتلونة بكاسات الحاكم وجوقته الذكية، الشعب إذن لم يعمل عند أحد ولم ينضم إلي أحد، أقول لكم كانت ارادته تزور من الجانبين الذين يحكمونه والذين يتحدثون باسمه زوراً وبهتانا وهم لا يرجون الخير إلا لأنفسهم وحسب، وما أتعس ذلك الشعب الذي كل يوم يخرج له دجال ليتحدث عنه ويرفع شعارات ويرغمه أن يحملها معه إلي غاية مضمرة في نفس الدجاجلة المجتمعين المنغلقين علي أنفسهم، وما أمر الماء الذي تشربه علي القذي وهو يسقط من يدك بعد ان سئمته، أيها الشعب الذي كنت نبيلاً طيلة عمرك وطيلة أيام ثورتك العظيمة، وقفت لتغير مجري التاريخ ولا يثنيك عن غايتك الكبيرة أي صغير أو عمل صغير، لكن مصر الخالدة كانت نصب أعينهم. إنها الحقيقة التي أود أن يراها معي أولو الألباب الذين يعرفون حق المعرفة كيف قامت الثورة وكيف نجحت في إسقاط نظام آثم بليد، ولست أملك إلا أن أدعوكم معي اليوم لتقرأوا صمت هذا الشعب الذي حول مظاهرات احتجاجية الي حالة ثورية حاشدة امتدت في كل شبر من أرض الوطن، ولتعرفوا مغزي الحزن الذي يجلل قسماته اليوم بعد أن تركناه نهباً لكل مغامرة ومقامر يريد أن يأخذ البلاد الي ساحة الحرب الجديدة، إن الشعب لن يتحمل مزيداً من المغامرات والإندفاعات الحمقاء، ولن يرضي بأن تهدر كرامته مرتين، في زمن قصير، فمرة علي يد مبارك وأعوانه، ومرة اليوم علي يد المغامرين الذين يبغونها عوجاً، ويمارسون »بروفة« الحكم قبل أن يحكموا، إننا ندرك ان الجيش الذي صان الثورة من دم الشعب ولحمه وقلبه، يريد أن يبر بوعده، ويسلم البلاد إلي سلطة مدنية، ولكن هيهات أن تكون هذه السلطة قد تهيأت بعد بما يريده الشعب لنفسه ويرضاه، فتمهلوا وتريثوا وأعيدوا قراءة أحزان الشعب وأسباب ثورته التي صمتت من جديد. دفتر أشعار الثورة مصر المحروسة من بطش الطغيان مصر المذكورة بحروف من نور في آي القرآن مصر المحفورة في جينات التاريخ مصر الممسكة بأحشاء الأرض ومصر المرسومة في قلب الإنسان في كل زمان ومكان