شاهد حفر قناة السويس.. وعاصر محمد علي باشا.. ووصف الخديو عباس بالسمين.. ووقت عرابي بالهوجة. والملك فاروق بالزفت.. وعبدالناصر بطارد الإنجليز.. وقال عن سعد زغلول إن الناس كانت تغني له والسادات »طخوه» الجمعة : كانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف من صباح »الجمعة» 11 يناير 1983 صعدت مع صديقي العمر وزميلي الدراسة صفاء نوار وشريف خفاجي درجات السلم الرخامي لمبني »أخبار اليوم» التاريخي في أول خطوة لي ببلاط »الآنسة المهذبة» كما كان يطلق عليها مصطفي بك أمين في ذلك الوقت.. وفي غرفة السكرتارية بالدور التاسع والتي يجلس علي رأسها الأستاذ »كرم إسماعيل» تجمع أعضاء قسم »لست وحدك» جاءت طالبة كلية الإعلام غادة زين العابدين »أول المؤسسين للست وحدك» وطالبا الإعلام علاء عبدالهادي وعصام السباعي وطالبة كلية الطب إنجي محمد.. وجميعهم أصبحوا اليوم نجوما في عالم الصحافة ومن القيادات في محبوبتنا »أخبار اليوم» فيما عدا »إنجي» التي اتخذت من الطب مهنة لها ومازال قلبها متعلقا بالمهنة وصداقة مستمرة بيننا لأكثر من 30 عاما.. ثم جاءت الكاتبة الصحفية »نوال مصطفي» رئيسة القسم في ذلك الوقت ومنار فرحات الصحفية بأخبار اليوم ليبدأ أول اجتماع لي مع أستاذ الأساتذة مصطفي بك أمين. اجتماعنا الأسبوعي مع الأستاذ مصطفي أمين كان يبدأ بكوب من عصير الليمون تسبح فيه قطع الثلج من يد عم »اسماعيل» وفنجان من القهوة لمصطفي بيه.. الاجتماع مقسم إلي جزءين.. الأول منه حتي أذان صلاة »الجمعة» نستعرض فيه ما أنجزناه من تكليفات طوال الأسبوع.. والثاني بعد عودتنا نحن الشباب من الصلاة وكان حوارا وإبحارا في عالم صاحبة الجلالة أو الآنسة المهذبة نسمع خلاله سيلا من الذكريات والوقائع ونتعلم دروسا في فنون وطريقة الكتابة الصحافية.. وأحيانا نخرج بطبعة جديدة من كتب مصطفي بيه عليها إهداء بخط يده »إلي تلميذي أو تلميذتي».. وكان مصطفي بيه يتعمد مناقشتنا فيما جاء في الأعمدة اليومية لكبار الكتاب الصحفيين مثل أنيس منصور وعبد المنعم مراد وجلال الحمامصي وإبراهيم سعده ليدفعنا لقراءة الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية من أول إلي آخر صفحة.. ثم يبتسم قائلا كنت أقول للصحفيين : عندما تشترون سندوتش الفول اقرأوا ورقة الجرنال الملفوف بها السندوتش وأنتم تأكلونه فحتي الإعلانات والوفيات يمكن أن تخرج منها بموضوع صحفي متميز.. أما الكتب التي كان يهديها لنا كان في الأسبوع التالي يسألنا عن رأينا فيما كتبه.. ولا يشعرنا بأي تذمر من نقدنا حتي لو كان عن جهل منا. السبت : كان مشروع »المتزوجون» أول الأعمال الصحفية التي كلفت بها في »لست وحدك».. فأحد الأمراء العرب تبرع بمبلغ لإتمام زواج عدد من الشباب والشبات المصريين تعوق الاحتياجات المادية إتمام زواجهم.. واخترت أنا وصديقي شريف خفاجي أن نذهب إلي بني سويف والاسكندرية.. ولم يكن اختيارنا وليد الصدفة ففي بني سويف زميل الدراسة »محمد صبحي» الذي سيكون مرشدنا في أول خروج لنا باتجاه الصعيد.. أما »عروس المتوسط» فهي القريبة إلي قلبينا وأذهب اليها في رحلات صيفية متكررة منذ الإجازة الدراسية للصف الأول الإعدادي. في نهاية الاجتماع أخرج مصطفي بيه من جيب الجاكت »محفظة» سوداء..وأعطي منها عشرة جنيهات جديدة لكل واحد منا قائلا : هذه مصاريف السفر.. سافرنا أنا وشريف وصديقنا محمد بسيارة بيجو من موقف »المنيب» إلي مدينة ببا التي تبعد عن عاصمة المحافظة 22 كيلو مترا.. قضي صديقنا السويفي رحلة السفر في قص حكاية التسمية لمدينة ببا متنقلا بين حواديت العامة عن الراقصة ببا عز الدين واختتمها قائلا : أرجح التفسيرات انها تنسب إلي الملك بيبي الثاني.. وهناك من يقول بأنها كلمة مصرية قديمة تعني »الزهرة الكبيرة».. وانتقل زميل الدراسة بنا للحديث عن »بني سويف » قائلا: لم يطلق هذا الاسم علي المحافظة إلا حديثا فخلال عصر قدماء المصريين كانت تسمي »بوفيسيا»..ومن أقدم المدن المصرية المقدسة في وادي النيل ومقرا للملك »نيسويت» وهو أحد ملوك مصر القديمة، قبل توحيد القطرين علي يد الملك مينا.. وكانت أيضا عاصمة لمصر في عهد الأسرتين التاسعة والعاشرة في الفترة من 2240 وحتي 2100 قبل الميلاد.. واستمرت في لعب دور مهم خلال العصرين اليوناني والروماني.. وتعرف باللغة القبطية باسم »باني سوف».. ومع الفتح الإسلامي حرف الاسم إلي »مينفيسيا ».. ورغم أنها لاتمثل سوي 1% من مساحة مصر فهي تشتهر بالجمع بين الطابعين الزراعي والصحراوي ولها أهمية خاصة من حيث إنتاج الفاكهة والخضراوات والنباتات العطرية. الأحد: توقف صديقنا عن الكلام بمجرد أن وصلنا لبيته الذي أغرقنا بكرم الضيافة لنأخذ سيارة قديمة بصندوق خلفي من موقف العربات في ببا إلي إحدي قري مركز »الفشن » الذي يقال إن تسميته تعود إلي الأميرة المصرية القديمة » ذات الألف شأن» والتي كانت تعيش في هذه المنطقة.. تحركت بنا السيارة المتهالكة في طريق زراعي ضيق يحده من اليمين ترعة صغيرة ومن اليسار أراضٍ زراعية..ووجدت »دركسيون» السيارة يخرج في يد السائق فقرأت »الفاتحة » علي أرواحنا أكثر من مرة.. ووصلنا إلي بيت »العريس» والذي اصطحبنا في سيارة نصف نقل يلسع وجوهنا الهواء البارد إلي بيت »العروس» بمدينة الفشن لنتأكد من صدق روايته ونجمع باقي المعلومات لكتابة القصة الصحفية.. قضينا ليلتنا في بيت زميلنا محمد صبحي.. ودعنا صديقنا في صباح اليوم التالي لنذهب إلي إحدي قري »الواسطي » أول مركز بمحافظة بني سويف لنعيش »مغامرة» أخري مع السيارات غير الآدمية ونضطر للسير علي أقدامنا 15 كيلو مترا والكلاب تنبح من حولنا. قضينا ليلتنا في بيوتنا لنستكمل في اليوم التالي مهمتنا بالاسكندرية ونفشل في الوصول لصاحب وصاحبة أحد الخطابين بعد تعرضنا لأمطار ونوة بعروس المتوسط.. عدنا من اول مهمة عمل لنا في بلاط »صاحبة الجلالة » يملأنا زهو الانتصار.. واتفقنا أن يكتب كل منا القصص بطريقته ليعرضها في الاجتماع التالي.. وبمجرد أن انتهيت من قراءة الورقة الأولي من أربع ورقات »فلوسكاب».. وجدت مصطفي بيه يخرج من صمته قائلا : »ده مش صحافة ولا أولي صحافة.. ده بدروم صحافة».. ولم يتركني استفسر عما يريد فاستكمل - رحمة الله عليه - قائلا: »عايز الكلام ده في نصف ورقة.. انت بتكتب تلغراف وكل كلمة ليس لها داع تحذفها هتوفر لك قرش من ثمن التلغراف.. ووافق أن اكتب القصة في 4 ورقات وفي ورقة واحدة حتي أصبحت مع الأيام لا أكتب سوي بالأسلوب التلغرافي مكتمل المعلومات الصحفية في أقل عدد من الصفحات.. ولا أنسي افتخار مصطفي بيه وهو يقدمنا لعمالقة »أخبار اليوم» أمثال موسي صبري وسعيد سنبل وإبراهيم سعدة وحسن شاه وماما نعم بعد نجاحنا في مشروع »المتزوجون» والذي تمكنّا من خلاله من إسعاد أكثر من 120 عائلة بإتمام زفاف أبنائهم قائلا : هؤلاء طلاب بالجامعة وهم من قاموا بتنفيذ المشروع الناجح.. وألحق باسم كل منا لقب أستاذ أو أستاذة عند مصافحتهم لنا رغم ضآلتنا في بلاط صاحبة الجلالة. الإثنين: لم يكن مصطفي أمين مهتما فقط بأن يعلمنا فنون الصحافة وطريقة الكتابة والفرق بين مايصلح خبرا أو تحقيقا أو حوارا صحفيا.. ولكنه كان أشد حرصا منا بأن نكون من الناجحين في دراستنا ومن الأوائل إن أمكن.. ومع قرب نهاية كل عام دراسي كان يطلب منا أن ننقطع للمذاكرة ونعود له بعد أن نجتاز الامتحانات بنجاح لنستكمل رحلاتنا إلي القري والنجوع والأحياء الفقيرة بالقاهرة والمحافظات لنشعر البسطاء بانهم ليسوا وحدهم. في إحدي رحلات مصطفي بيه إلي انجلترا عام 1990 صعدت للدور التاسع لأختار الخطابات التي سأقوم بتنفيذها خلال الأسبوع فأهداني الأستاذ كرم إسماعيل مدير مكتبه ورفيقه في سنوات السجن »الظالمة» خطابا من محافظة الإسماعلية يطلب فيها أحد أهالي قرية »عين غصين» مساعدة »أكبر معمر في العالم».. جذبني الخطاب ونزلت من فوري كما علمني أستاذي مصطفي بيه إلي أرشيف المعلومات الضخم في »أخبار اليوم».. قلبت في الأوراق الصفراء التي أحضرها لي عم »جمال» ووجدت أن »إبراهيم الكريمي» كان منذ سنوات نجما صوره التليفزيون المصري ووعدوه بتحقيق رغباته في الحج والزواج وبناء بيت جديد.. وكالعادة مرت الأيام والسنون لتموت كل الوعود وبقي »الكريمي» وحيدا بجوار حجرته القديمه يضعف بصره وسمعه ويصبح حملا ثقيلا.. واكتفت الدوله بإعطائه 20 جنيها معاشا شهريا.. حملت الكنز الذي أهداه لي الأستاذ »كرم» - رحمة الله عليه - وذهبت ومعي كاميرا روسية »زينت» اقتنصتها من صديقي »طارق شبانه» الذي يملك خبرة طويلة في التصوير وكاميراته.. لم اجد جدو إبراهيم أسفل شجرة المانجو التي زرعها منذ ما يقرب من 100 عام فقد كان يتجول بالمنطقة.. تحدثت مع صغري بناته التي تجاوزت الخمسين عاما.. وعندما هممت بالرحيل وجدته قادما علي الطريق الذي يحده من الغرب ترعة ومن الشرق قرية عين غصين.. فهمت بعض كلماته بصعوبة..وعندما أردت تصويره طلب مني جُنيهاً.. وقدمته له..وبعد عدة لقطات رفض الاستكمال وجري ورائي بالعكاز الذي يسير عليه. الثلاثاء: عدت للقاهرة سعيدا بالكنز الصحفي الذي حصلت عليه.. وحاولت إخراج الفيلم من الكاميرا فتمزق ووصله الضوء وتلف.. أصابني الحزن علي ضياع مجهود يوم كامل.. وفي اليوم التالي أخذت الأستاذ »اليكس» أحد فناني »أخبار اليوم» في التصوير بكاميرته التاريخية التي توضع علي حامل وينظر لها من أعلي وذهبنا إلي جدو »إبراهيم».. وحدثت المعجزة تحدث معي بعد توسط أحد أهالي القرية والذي تولي تفسير الكلمات والجمل غير المفهومة.. قال لي ابراهيم الكريمي انه تزوج مرتين وأنجب 13 ابنا وابنة بقي منهم حيا حتي الآن 6بنات وولد.. وأن زوجته الثانية ماتت من 26 عاما وكان عمرها 80 سنة.. ويتذكر الكريمي ان والده جاء إلي الإسماعيلية منذ ما يقرب من قرنين من عرب الكريمات بالجيزة.. وكان يتولي مسئولية الكوبانية.. وفتح بوابة المياه للفلاحين وأنه تولي المهمة بعد وفاة والده.. وحكي لي الكريمي انه شاهد حفر قناة السويس صغيرا.. وأول من شاهده يحكم مصر وهو كبير الخديو توفيق.. وعاصر محمد علي باشا.. ووصف الخديو عباس بالسمين.. ووقت »عرابي» بالهوجة. والملك فاروق بالزفت.. وعبدالناصر بطارد الانجليز.. وقال عن سعد زغلول ان الناس كانت تغني له والسادات »طخوه» ومبارك بيعطيني 20 جنيه كل شهر ولو شافه هيقول له يطرد الموظفين لأنهم بياخدوا الفلوس منه ويقولوا له هتضيعهم.. وتذكر »الكريمي» أيام صباه قائلا: كان زمان الفدان بقرش صاغ والبقرة أغلي ب 8 قروش.. وكنت بافطر اللبن والبسكويت.. واتغدي بكيلو من دهن الخروف.. واتعشي بمحمية بيض لا تقل عن عشر بيضات.. ولم أذهب للدكتور سوي مرة واحدة.. واختتم كلامه معي قائلا : ابويا مات وإخواتي وأصحابي ماتوا.. ونصيحتي لمن يريد الوصول لعمري ان يأكل بصورة جيدة ولا يفكر بالمشاكل ويعمل في الأرض الزراعية.. وعندما سألته عما يريد قال : عايز اعالج عينيا.. فكتبت موضوعا بعنوان »أكبر معمر في مصر يحتاج طبيب عيون» وانهالت الرسائل والفاكسات من مصر والسعودية لعلاج الكريمي.. وتوفي الكريمي بعد عام ولم أصل لعمره الحقيقي هل هو 170 أو 180 عاما أو كما يقول 195 سنة.