رهبة غريبة انتابتني وأنا اصافح أستاذ الأساتذة مصطفي بك أمين لأول مرة.. أحسست بضآلتي وأنا أقف أمام عملاق الصحافة وجها لوجه.. أزال الخوف من نفسي الابتسامة التي لا تغادر وجهه إلا لحظة كتابة عموده »فكرة» والذي كنت من المحظوظين الذين نالوا شرف حضور تلك اللحظات أكثر من مرة. الثلاثاء : مازلت أعيش بين الأوراق الصفراء لكتاب د. سامي عزيز »ثورة في الصحافة» فحكاية »أخبار اليوم» تجربة فريدة تؤكد أنك يمكنك أن تصنع المعجزات في عالم »صاحبة الجلالة» إذا كنت تريد ذلك.. فقد وضعت »الجريدة الناشئة» في افتتاحية العدد الأول دستورا مازالت بقاياه موجودة حتي الآن.. أعلنت خلاله أنها ستخوض حربا علي الفساد والطغيان والفقر والمرض والجهل والاستعباد.. وأن سياستها ستكون الصراحة التي تحمر منها بعض الوجوه. لقد تربيت علي قراءة »الكتب» وصحيفتي »الأخبار» و»أخبار اليوم» والاستماع إلي الإذاعة..فلم يكن لدينا »انترنت وفيس بوك وتويتر» ولا انتشار للتليفزيون والفضائيات.. وكانت مكتبة »امبابة» العامة هي الملجأ لنقرأ الصحف والمجلات.. وكنا بكارنيه المدرسة وبطاقة الوالد نستخرج اشتراكا سنويا بالمكتبة يتيح لنا استعارة أي كتاب لمدة 15 يوما.. وأتذكر أني قرأت كتاب »مانسون زعيم الهيبز» ولم تتجاوز سني 10 سنوات. المجتمع الذي عشت فيه طفولتي وصباي بين منتصف الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كان مختلفا..كنا نملك الوقت الذي يتيح لنا التعلم والمذاكرة والاستمتاع بوقت الفراغ والإجازة الأسبوعية في زيارات عائلية و»فسح ».. كان أبسطها السير علي ضفاف النيل والجلوس علي الكراسي الرخامية التي تحيط بها الأشجار والخضرة في كل مكان.. كانت سماء القاهرة نقية لاتعرف التلوث نري فيها النجوم..ونكاد نلمس بأصابعنا القمر في ليلها ونشاهد الأرنب الجالس داخله بمنتهي الوضوح.. لم تكن شوارع العاصمة تعرف ناطحات السحاب والأبراج التي شوهت جمالها.. وكنا نري الأهرام من فوق سطح عمارتنا التي لاتتعدي 5 أدوار.. كانت القيم والمبادئ وجدعنة »ابن البلد» هي الصفات التي تحكم »الجيرة» حتي أننا كأطفال كنا نتجمع علي »طبلية» في إحدي الشقق لنتشارك طبقا من العسل الأسود أو قطعة جبن أو حلة »محشي» أو»كشري» لا نعلم من صنعتها من جاراتنا.. لم نكن في حاجة إلي دروس خصوصية لأن جاري او جارتي الأكبر لن يبخل بأن يقتطع من وقته ليرفع من قدرتي علي تحصيل العلم. الخميس : علي عكس الجيل الحالي كان جيلي يحب المدرسة إلا ما ندر لأنه يجد فيها كل شئ..ففيها يتلقي العلم ويمارس هواياته ورياضته المفضلة.. ويلتقي أصدقاءه ويذهب في رحلات شبه شهرية لأماكن ثقافية وترفهية.. حتي أنني في مرحلتي الإعدادية اختارني الكابتن »محسن صالح» وكان صديقا لمدرس التربية الرياضية في مدرستي لأكون لاعبا بالنادي الأهلي.. ولكن مبدأ والدي- رحمة الله عليه- أن العام الدراسي للدراسة فقط.. والإجازة لممارسة الرياضة والترفيه والسفر إلي قريتنا حال دون ذلك.. فزيارة الأهل والعائلة بقريتنا التي تبعد 4 كيلومترات عن مركز »بركة السبع» كانت جزءا أصيلا من إجازاتنا المدرسية كل عام.. كانت القرية مختلفة وخاصة قبل ان تصل إليها الكهرباء منتصف السبعينيات.. كانت القرية المصرية في الماضي العزوة والنقاء والهدوء ومنبع الخيرات..فكل شئ متاح وله طعم مختلف عن المدينة..فالخبز الساخن والفطير المشلتت المصنوع في الفرن البلدي بدوار جدي عبد الحليم والي وجبة إفطار دائما يحيط بهما أطباق القشطة وأكواب اللبن والجبن »القريش » وعسل النحل..وفي المساء صواني »الأرز المعمر» و»الفراخ والبط والأوز».. وبينهما وجبات من الفاكهة والخضراوات التي لاتعرف الكيماويات والتلوث نأكلها من علي أغصانها.. وكانت أمتع اللحظات عندما نتجمع أنا وإخوتي وأولاد خالاتي القادمين من »كفر الدوار» حول »ركية» الذرة المشوي بالغيط نتخطفه وهو ساخن.. أو نقضي يومنا في صيد السمك من »الترعة» أو »بحر شبين» اللذين لا تنقطع فيهما المياه أو تقل يوما. كان بائع »الجرايد» يأتي إلي بيت جدي في الرابعة بعد الظهر علي »عجلة» ليلقي له »الأخبار» أو »أخبار اليوم».. ويجلس جدي الذي أحيل للمعاش من منصب مدير للتعليم أمام البيت بعد عودته من الأرض والاطمئنان أن العمال يهتمون بها ليقرأ علي جدتي »الأخبار» وهي تنصت له.. وتناقشه في بعضها..ويستمر هذا حتي يحين موعد »العشاء» وهي الوجبة الرئيسية في القرية لتبدأ حلقة سمر نستمع فيها للحكايات ونتبادل النكات والقفشات. مشهد جدي وجدتي كان يتكرر بعد عودتنا للقاهرة.. والدي يمسك بالجريدة بعد استيقاظه من »القيلولة» وأمي تجلس بجواره وأمامها »السبرتاية» وفنجان القهوة.. والبن المصنوع في بيتنا ليقرأ عليها الأخبار مبتدئا بصفحة الحوادث التي تحب أمي سماع حكاياتها. الجمعة: لقد ارتبطت منذ طفولتي بأخبار اليوم والأخبار.. ونادرا ما كنت أري الأهرام أو الجمهورية في بيتنا أو بيت جدي..فأخبار اليوم احدثت ثورة صحفية وكسرت كل قواعد الإدارة والتوزيع والإعلانات.. فصاحباها مصطفي وعلي أمين – كما يقول سامي عزيز- تغلب عليهما صفتهما الصحفية عن أنهما اصحاب رأس المال.. ويؤمنان بالصحافة وليس الأرقام.. ولا يحسبان ما يتكلفه الخبر ماداما يحرصان علي اقتناص المحرر الكفء.. فمع بداية ظهور »أخبار اليوم» جلس خبراء الإدارة يفكرون فيما يصح أن يكون عليه التوزيع وما تجلبه من إعلانات..وعندما جمعوا الرقمين وجدوا أن مجموعهما لا يفي بما يتطلبه التجهيز في جريدة »المصري» والطباعة في جريدة »الأهرام » والإقامة بشقة في شارع قصر النيل حتي وإن كانت فوق السطوح..واستنتجوا ان الجريدة الأسبوعية سوف تفلس بعد بضعة أشهر علي الأكثر..ولكن هذا لم يحدث فرغم أن »أخبار اليوم» صدرت في حجم جديد لم تألفه الصحافة الأسبوعية ألفه القراء.. وعندما سمحت للإعلانات أن تطغي علي التحرير لم يتبرم القارئ والمعلن بل أقبلوا علي الشراء والإعلان...فالصحافة هي الحياة بالنسبة لمصطفي وعلي امين..فلا يهم مصطفي امين ان يقدم جهوده كلها للصحافة..ولا شئ يحرك فيه شعوره وإحساسه سوي الخبر والموضوع الصحفي..أما علي امين فتحدث عن نفسه في العيد العاشر لأخبار اليوم قائلا:» هل يساوي نفوذ »أخبار اليوم» وسعة انتشارها شبابي الذي ذهب وأعصابي التي تحطمت وعرقي الذي سال..لقد ربطت نفسي بعجلة ماكينة طباعة »الأخبار» فأدور معها 60 ألف لفة في الساعة..فإذا وقفت ماكينة الجريدة اليومية ربطت نفسي في عجلة ماكينة طباعة المجلات وخرجت من تفكيري بأن أخبار اليوم تساوي كل هذا بل تساوي أضعافه من الجهد والعرق والأعصاب..ولو عدت عشرة اعوام للوراء لقدمت شبابي وأعصابي ودرت كما أدور اليوم. الأحد : الصحافة بالفعل كانت حياة الأستاذ مصطفي أمين فعندما كان رئيسا لتحرير »الاثنين» وكان رئيس الوزراء مصطفي النحاس يتولي مهنة الرقيب علي مجلة الاثنين.. ابتكر مصطفي امين شخصيات يرسمها الفنان رخا تستطيع أن تقول ما لا يستطيع الرقيب حذفه فكان »حمار افندي» الذي يعلن دائما أن كل شئ عال وعلي مايرام وأن الغلاء غير موجود والعدل والإنصاف يشمل جميع الطبقات..وعندما أراد مصطفي أمين أن يشرك »رجل الشارع» في السياسة بعد ان اصبحت هي والحرب العالمية الثانية تلعبان دورا هاما في طعامه..وكل فساد سياسي يزيد من ثمن رغيف الخبز أو يحرمه من الدواء وشاهد بعض السياسين يتاجرون في أكفان الموتي أثناء وباء الملاريا الذي اجتاح الوجه القبلي ابتكر مصطفي بيه شخصية »ابن البلد»..ووصفه بأنه رجل بسيط يجهل البروتوكول والتقاليد أو يتجاهلها.. يتحدث مع الكبراء الند للند.. ويتكبر ويتغطرس علي المتكبرين والمتغطرسين..وهو علي ضعفه عدو الظالمين وصديق المظلومين..وسيشرب ماء النيل »القذر» إلي أن يرق قلب الحكومات فتمد أنابيب المياه الصالحة للشرب إلي أفواه الفلاحين..وسيعيش ضعيفا إلي أن نعتني بصحة كل عامل وفلاح..وهو رجل فقير ما دام المصريون فقراء..وسيبقي لا يكسب إلا ثلاثة قروش كل يوم إلي ان نرفع مستوي جميع الفلاحين والعمال المصريين. ابن البلد ثائر علي المتبع..يحب المرشح إلي أن ينتخب والضعيف إلي ان يقوي والفقير إلي أن يغتني.. وهو يكره القوي إلي ان يضعف والظالم إلي ان يعزل..ولا يكف عن الابتسام والبعض يري ابتسامته جهلا ورضي بالخنوع.. والبعض الآخر يراها دليلا علي السخرية والاستخفاف.. وهو حاضر النكته يلقيها ولا يهمه ان تصيب أو تخيب..وقد يتعثر فيها الكبير وقد تؤلم الصغير ولكنها دائما بريئة لا يقصد منها ان ينفع احدا او يضر أحدا اللهم إلا طبيعته الساخرة التي ورثها من توالي عهود الظالمين والمستعبدين..»ابن البلد» رجل طيب القلب لا يتعصب ضد دين او جنس. لا يحقد علي احد ولا ينتقم من مغلوب ولا يغمد خنجره في جريح..كم اضطهدوه وعذبوه وطاردوه وامتهنوه ولكنه لايستطيع إلا أن يقول كلمته الخالدة »معلش» او ربنا يسامحهك او منهم لله.. فابن البلد يحني رأسه امام الطغيان وفي الوقت نفسه يلعن في قلبه الطغاة والمتجبرين.. وهو رجل خلق من الطبيعة وحدها..والحكمة التي تسير علي لسانه هي حكمة السليقة وقد لايقصدها.. والقبلة التي يطبعها علي يد القوي قد تخرج من فمه ولا يشعر بها.. أما اللعنة التي يرسلها فهي من قلبه وقد يكون لها دون ان يعلم أثرا أشد فتكا من رصاص المدفع الرشاش. الاثنين : كلما صعدت للدور التاسع في مبني »أخبار اليوم» التاريخي أشعر بالحسرة وأفتقد مكتب أستاذ الاساتذة مصطفي بك أمين الذي شاهدت تفاصيله في فيلم »حكاية حب» لعبد الحليم حافظ وزبيدة ثروت قبل أن أدخله.. فمشهد الفنان محمود المليجي وهو يوبخ عبد السلام النابلسي قائلا له : »يا انت تبطل تصوير.. يا انا أبطل صحافة».. فيرد النابلسي :»انا مش هبطل تصوير» من علامات السينما المصرية.. ولان البعض لا يعرف قيمة التاريخ فقد قذف أحد رؤساء مجلس الادارة السابقين بالمكتب ومقتنياته إلي بائع »الروبابيكيا».. وأقام بدلا من الاصالة قاعة صماء للاجتماعات تحول معها الدور التاسع من- مكان ينبض بالحياة وملجأ للبسطاء والفقراء وطلاب الجامعات تتكدس فيه خطاباتهم المنظمة والمرتبة في دوسيهات علي الارفف الخشبية وتربيزة الاجتماعات في مكتب العملاق- إلي جسد ميت. ورغم ما فعلوه بالدور التاسع لكن سيبقي مصطفي أمين موجودا في طاقات النور التي فتحها لابن وبنت البلد من خلال ليلة القدر وأسبوع الشفاء ولست وحدك ونفسي.. ومع كل سنارة أعطاها لشاب أو امرأة أو رجل ليفتح له باب الرزق بدلا من اعطائه سمكة يأكلها ويجوع مرة أخري.