إن الثورات التي تتوقف في منتصف الطريق تنتكس وتجهض، هذا ماتؤكده ذاكرة التاريخ وتجارب الشعوب، ومن حسن الطالع أن ثورتنا لم تتوقف بعد، لكننا أيضاً لم نذهب بها إلي جادة الشوط المرتجي، وعلينا أن نحميها من تقلبات وأنواء تبدو في الأفق وتدفع للتحسب والاستعداد. إن إحساساً عاماً بدا يسري بين الناس أن الثورة تسرق أو تتباطأ قدراتها أوتأخذها قوي معينة إلي دهاليز السياسات القديمة من تطويق واحتواء واستغلال وتطويع. وإذا كان الإصلاح يقبل التدرج والتراكم عبر مساحات زمنية أطول، فإن الثورة يميزها بالأساس معدلات التغيير الفجائية والمتسارعة، أو"مومنتم" عال لايقبل الخطوات البطيئة والرتيبة والمتدرجة، ومن أسف أن شيئاً من هذا بدا حاكماً لمسيرة الثورة وإنجازها، الأمر الذي أورث قطاعاً كبيراً من الجماهير قلقاً وتوجساً له مايبرره. وقد يري البعض أن الوقت مازال مبكراً للحكم علي الثورة وأن 25 يناير حققت في فترة وجيزة ماعجزت الثورة الفرنسية عن تحقيقه في مرحلتها الأولي (يوليو 1789 - اغسطس 1792)? التي أسست للملكية الدستورية والجمعية الوطنية وإلغاء الامتيازات، وإصدار بيان حقوق الإنسان ووضع أول دستور للبلاد. واحتاج الأمر مرحلة ثانية (أغسطس 1792 - يوليو 1794) لتصاعد التيار الثوري وإعدام الملك وإقامة نظام جمهوري قضي علي النفوذ السياسي للكنيسة الكاثوليكية. نعم تدرجت الثورة الفرنسية، لكن لاتنسوا أن هذا التدرج والتردد كان سبباً مباشراً في مرحلة ثالثة (يوليو 1794 ذ نوفمبر 1799) اعتبرت عنواناً علي تراجع الثورة حيث سيطرت البورجوازية علي الحكم، وغيرت الدستور، وكانت نتيجتها قيام نابليون بونابارت بانقلاب عسكري وضع حداً للثورة وأقام نظاماً ديكتاتورياً توسعياً. تلك كانت تجربة أهم ثورة أوروبية في عصر لم تتوافر له عناصر السرعة والتمايز التكنولوجي الذي نعايش أهم إرهاصاته وإبداعاته ونواتجه، ثم هي كانت تأسيساً لعصر الحداثة الديمقراطية في فترة تحولات سياسية واجتماعية كبري في التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا وأوروبا بوجه عام. وعلينا ألا ننسي إنتكاسة الثورة وحجم الرعب الذي سري والمحاكمات الظالمة وآلاف الضحايا في مقصلة روبسبير وسان جوست، جاءت جميعها بسبب التردد والتدرج وهذا ال "مومنتم" البطئ للثورة الفرنسية، الذي وإن تناسب مع عصره فلا مبرر له مع عصرنا هذا الذي راكمت العشرين سنة الأخيرة فيه تغيرات وتحولات علمية وتكنولوجية وسياسية واجتماعية وثقافية أكبر كثيراً مما حدث عبر عمر البشرية كله ومنذ الإنسان الأول وفجر التاريخ. إذن تخوفنا علي الثورة له مايبرره ويمكن تلخيصه في: 1. تحديات تواجه الثورة من خارجها، 2. تحركات تهدد الثورة من داخلها، 3. مناخ سياسي طارد وظروف غير مواتية. تحديات تواجه الثورة من خارجها "إنتهازية الثورة المضادة": بدأت الثورة المضادة تجلياتها مع بدايات الثورة، ففي الجمعة 28 يناير اختفت الشرطة وفتحت السجون وأطلقت عصابات المسجلين خطر والمجرمين وتلتها في الأربعاء الدامي 2 فبراير موقعة الجمال والبغال واستمرت مشاهدها في القضاء علي الذاكرة المؤسسية واعدام وثائق أمن الدولة واقتحام مقراتها وتسريب تقاريرها وكذا الدفع بالاضرابات والتظاهرات الفئوية وإثارة الفتنة الطائفية لتشويه الثورة وضرب إستقرار مؤسسات الإنتاج والشركات والمصانع وإحداث البلبلة والخوف وعدم الأمان، ولقد توافرت قرائن وشواهد علي أن الثورة المضادة كونت تشكيلات عصابية شبه عسكرية من البلطجية والخارجين علي القانون أيدها ودعمها وخطط لها ومولها عدد من كبار منتسبي النظام السابق وبقاياه مع بعض الوزراء والنافذين وسماسرة الأوطان وجرحي الثورة ممن تربحوا من الفساد وكونوا "كارتلات" إحتكارية إجرامية هدفت لإحداث الفوضي والوقيعة بين الجيش والشعب والحكومة وضرب الاستثمار والانتاج وتطفيش رأس المال العربي والأجنبي والقضاء علي السياحة وغلق المنشآت الصناعية، ولقد أشار المجلس العسكري لذلك وأعلن د. عصام شرف أن الثورة المضادة تقوم بعمليات إجرامية وفوضي ممنهجة، معتمدة علي بطء الإجراءات العقابية، لذا يتوجب علينا لحماية مكاسب الثورة والحفاظ عليها أن نعتمد آلية ثورية في مقاومتها وتجفيف منابع الفساد التي هي أهم روافدها، فما أحوجنا إلي "هيئة إدعاء ثوري" يعلنها المجلس العسكري تكون لها صلاحيات التحقيق ومحاكمة الفاسدين والخارجين علي القانون والمهددين للمجتمع والثورة، علي غرار لجان التطهير ومحكمة الثورة في يوليو 25 ذلك أن النيابة العامة والقضاء المصري بعناصره وإمكاناته لن يكون قادراً وحده علي أداء هذه المهمة بشكل عاجل يحمي الثورة ويستعيد للدولة أمنها واستقرار مؤسساتها. إن عناصر الثورة المضادة لازالت لها مراكزها القانونية في الإدارة المحلية والوزارات والهيئات ولازال "اللاهون في مؤسساتنا الكبري" من مساعدي الوزراء السابقين مطلقي الأيدي يعيثون فساداً في مؤسساتنا الكبري ولابد من إيقافهم عند حدودهم بإجراءات تحمي البلد وتحمي الثورة وتستعيد عجلة الإنتاج والاستثمار والسياحة والتبادل التجاري وحركة قناة السويس. تحركات تهدد الثورة من داخلها "فاشية وكلاء الثورة": إن رفاق الأمس مافتئوا يخرجون من ميدان التحرير حتي تحول البعض منهم عنوة إلي وكلاء عن الثورة يحاولون تطويعها لصالح حركاتهم وتنظيماتهم وأهدافهم، والتقوا في ذلك مع المتحولين وراكبي موجة الثورة، وبقايا النظام السابق وتوحدت مطالبهم واستغل خطابهم الجماهير البسيطة المتدينة بطبعها، وفي توظيف رخيص للدين بدءوا ابتزاز الناس وتخويفهم لخدمة مصالحهم السياسية الأنانية، تجلي ذلك في الاستفتاء علي تعديل الدستور مما ينبئ بخطر هؤلاء علي مسارات الثورة ومستقبلها، ولابد من تنبه المجلس العسكري لهذه المحاولات بالإصرار علي إعلان دستوري يؤكد دعائم "الدولة المدنية" وقوانين تمهد للإنتخاب بالقوائم النسبية وعدم قيام الأحزاب علي مرجعيات دينية حفاظاً علي تماسك النسيج الوطني ودرءاً لأطماع المتلمظين للقفز علي مكاسب الثورة بالحيلة والخديعة والتواطؤ. مناخ سياسي طارد وظروف غير مواتية "حكومة رد الفعل ومومنتم التباطؤ والتردد": لاشك أن حكومة شرف تعمل في ظل أوضاع غير مستقرة وتحيطها مؤامرات وتحديات غير خافية علي أحد، وعلينا دعمها، لكنها تخطئ إذا ماتصورت أن تسيير الأعمال يعني عدم استشراف المستقبل والعمل من أجله، وعليها أن تعالج التردد ولاتستجيب للإبتزاز فتقع في دائرة الانتظار ورد الفعل، وعلي الحكومة أن توظف طاقة الدفع الثوري وتفرض مبادراتها وتتقدم لتنفيذ برامجها ومشروعاتها. ود.عصام شرف أول من يعرف أن معدلات التسارع "المومنتم" الضعيفة غالباً ماتؤدي إلي الارتداد والإنتكاس، وهو يعرف أن ذلك ليس من طموحات الثورة التي كان واحداً من صناعها.