** كانت تحمل لقب الدولة الأكثر فسادا في العالم .. ولكنها وبعد أم خاضت أعظم تجربة لمكافحة الفساد، أصبحت الآن ووفق معايير منظمة الشفافية الدولية الدولة الأقل فسادا في آسيا، وأحد الدول القلائل الأقل فسادا علي مستوي العالم .. هذه الدولة هي سنغافورة، النموذج العالمي الجاهز للتطبيق، والذي يُضرَب به المثل في هذا الصدد .. ولأننا نحن المصريين لا هم لنا الآن سوي مطاردة الفساد، وملاحقة المفسدين، والعمل علي ألا نسمح بحدوث هذا مستقبلا، تقدم " الأخبار " هنا صيغة ناجحة بشهادة العالم لمكافحة الفساد، تتمثل في التجربة السنغافورية، ونستعرض فيها ما انتهجته هذه الدولة من سياسات، وما سنته من قوانين وتشريعات، وما اتخذته من إجراءات سياسيا ووقائيا وجنائيا، حتي نفضت عن كاهلها اللقب الأسوأ الذي يمكن أن تحمله دولة ما، لتتحول إلي دولة " شفافة " وأحد أهم عواصم التجارة والمال رغم مواردها المتواضعة .** يعتبر الفساد هو المنتج الأسوأ سمعة لأي مجتمع، ويقف وراءه مجموعة من مقومات إنتاجه، أو أسباب لظهوره تختلف بين بلد وآخر، نتيجة للظرف التاريخي والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ولذلك فإن أي آلية توضع لمكافحة الفساد لا بد ان تأخذ هذه الأسباب في الحسبان حتي تؤتي ثمارها. والفساد ليس ظاهرة مستجدة او طارئة علي المجتمعات، لكن هذا الفساد قد يتجاوز الخطوط الحمراء، ليصبح ظاهرة تغتال حاضرها، وتصادر مستقبلها، كما الحال لدينا في مصر الآن . ورغم اختلاف الأسباب التي توفر بيئة خصبة لظهور الفساد وتناميه وتفشيه، بين بلد وآخر، بل اختلافها في البلدان المتقدمة عنها في البلدان النامية، نتيجة للظرف التاريخي ونوع النظام السياسي والاقتصادي السائد والمستوي المعيشي والمنظومة القيمية والأخلاقية...الخ، إلا أن طرق ممارسة الفساد تكاد تكون متشابهة. ويمكن القول إن الإرادة السياسية - كما سنري في سنغافورة - هي التي تستطيع إنتاج قانون مكافحة فساد فعال، ونظام للتقاضي نزيه وسريع، وإدارة ضبط إداري وقضائي تتميز بالصرامة والحرفية المهنية. وتتلخص تجربة سنغافورة في مكافحة الفساد عام 1959، في إصدارها " قانون مكافحة الفساد "، بالإضافة إلي إنشاء " مكتب التحقيق في ممارسة الفساد " وبالتزامن تمت بزيادة رواتب الموظفين الحكوميين، وتحسين مستوي أدائهم في الخدمة. وبالفعل نجحت سنغافورة في مكافحة الفساد وأرجع رئيس وزرائها - آنذاك - " لي كوان يو " هذا النجاح إلي إصدار القانون الخاص بمحاربة الفساد وتعاون الجمهور في الإبلاغ عن حالات الفساد واضطلاع مكتب التحقيق في ممارسة الفساد بمهامه علي الوجه الأمثل . هذه هي خلاصة التجربة، ولكن التفاصيل هي التي صنعت الفارق، ونقصد بها حزمة القوانين والتشريعات والإجراءات، التي توجت التجربة بالنجاح الذي أبهر العالم . إجراءات الوقاية من الفساد وبالنسبة لسياسة الوقاية من الفساد، فبالإضافة إلي التوعية وتأمين الضبط الاجتماعي بوسائله المختلفة، اتخذت سنغافورة ما يلي : الفصل بين الوزارات وإداراتها التنفيذية، حيث تتولي التنفيذ هيئات ومؤسسات منشأة بقانون، لإبعاد الوزارة عن سلطة التنفيذ، وإزالة كل ما يمكن أن يترتب علي ذلك من فساد، ولا يبقي للوزارة إلا التخطيط الاستراتيجي للمدي المتوسط والبعيد. زيادة مرتبات الموظفين في الدولة بحيث تكفي لتوفير مستوي حياة كريمة، باعتبار أن دفع أجور مرتفعة أهم رادع للفساد. تبسيط الإجراءات الإدارية والحد من المستندات المطلوبة للحصول علي الخدمة مع وضع مدونة إجراءات إدارية واضحة. التضييق من سلطته التقديرية بوضع معايير دقيقة يستند إليها في أدائه لعمله. الحد إلي أكبر قدر من تعامل الموظفين بالمال (الموظف لا يري المال وإنما يري الأرقام)، فالرسوم والغرامات تدفع الكترونيا . وقد تم إنشاء إدارة تولت تعليم المواطنين كيفية الدفع الالكتروني. التوسع في تقديم الخدمات بالطريق الالكتروني، لا لتقليل من الاتصال المباشر بين الموظف وطالب الخدمة. وضع أنظمة شفافة تؤدي إلي التقليل إلي حد كبير من الأسرار التي يملكها الموظف العام بسبب وظيفته. إنشاء هيئة لمراجعة تاريخ الأفراد قبل توظيفهم لضمان عدم تولي أي شخص لمنصب قيادي أو عمل سياسي بسبب شبهات سابقة بالفساد. الحد من نشر ثقافة الفساد في سنغافورة، و منع نشر إشاعات عن حالات فساد دون وجود أدلة واضحة، واعتبار ذلك جريمة في حد ذاته. حظر استعمال الصفة في الأماكن التي تقدم خدمات بالنسبة للقضاة وأعضاء النيابة العامة والموظفين العامين كافة. تحديد أجل ستة أشهر يجب أن تفصل فيه المحاكم في القضايا المعروضة عليها وعدم التأجيل لتاريخ يتجاوز هذا الأجل. مكافحة الفساد جنائيا وقد شملت السياسة الجنائية التي اتبعتها سنغافورة في مجال مكافحة الفساد جانبا موضوعيا وآخر إجرائيا. ويمكن إجمال خصائص النظام السنغافوري في مكافحة الفساد علي النحو التالي : وجود هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولي دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في قضايا الفساد. إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم ومن ذلك مراقبة التغييرات التي تطرأ علي حياة الموظفين. عند التحقيق في قضية من قضايا الفساد يجب أن يتعدد المحققون، بحيث لا يجوز أن يتولي القضية محقق واحد.