ويتواصل استعراض اليوم لأهم الانجازات والمحطات في حياة فقيد مصر الراحل د. محمد عبدالقادر حاتم وفي مقدمتها الاذاعة السرية التي انشأها في بدايات ثورة يوليو 52 لاحداث قلق للقوات البريطانية في القناة ثم مبادرته بإنشاء التليفزيون المصري والتي قوبلت بالرفض في البداية من مجلس الوزراء في يوم لايمكن أن ينساه .. ثم قراره بإلغاء ضريبة الراديو والتركات.. ولا يمكن أن ننسي دوره في انشاء وزارة السياحة وانقاذ معبد أبوسمبل وعلاقته الوثيقة باليابان واليابانيين حتي أنهم اعتبروه الأب الروحي لهم.. حكايات لابد منها ليعرف جيل الشباب من هو عبدالقادر حاتم وماذا قدم لمصر؟ في حياة د. عبد القادر حاتم يوم لا ينساه أبدا حينما رفض الوزراء فكرته لانشاء التليفزيون سألته عما حدث في هذا اليوم.. وبدأ يستعيد الذكريات.. كنا قد خرجنا من معركة العدوان الثلاثي عام 1956 وانتصرنا علي 12 إذاعة معادية بميزانية ربع مليون جنيه فقط، في مواجهة تمويل بريطاني لأجهزتهم الإعلامية التي رصدوا لها 25 مليون جنيه إسترليني وهذا ما دعاني إلي التفكير في إنشاء نافذة إعلامية جديدة كضرورة ملحة استوجبت إنشاء التليفزيون المصري.. وقال عنه نجيب محفوظ الحائز علي جائزة نوبل إن التليفزيون الذي انشأه د. حاتم نقل مصر مائة عام. ويقول د. عبد القادر حاتم: لن أنسي هذا اليوم عندما عرضت فكرة إنشاء التليفزيون علي مجلس الوزراء وفوجئت بمعارضة شديدة من جميع الوزراء ولكل وزير حجته ومبرراته، وزير التعليم: الأفضل إنشاء مدارس جديدة للتعليم فهي أجدي وأنفع مما سيقدمه التليفزيون، وزير الزراعة: إن الأمن الغذائي هدفنا وهو أمر يتوقف علي الفلاح الذي ينام بعد العشاء ويصحو الفجر حتي يمكنه أن يقوم بعمله ودخول التليفزيون في مصر سيلهيه عن أن ينام مبكرا ويؤدي واجبه مما يؤدي إلي تدهور الزراعة.. أما وزير الأوقاف فقال إننا بلد إسلامي حسب الدستور ويجب أن نعمل علي نشر المبادئ الإسلامية والأخلاقية وهذا يتعارض مع إنشاء التليفزيون وما سيقدمه من غناء ورقص وتمثيل أما وزير الصناعة فكانت حجته أنه ليست لدينا مصانع قادرة علي تصنيع التليفزيون. ووسط هذا الاتجاه المعارض أعطاني جمال عبد الناصر الكلمة وقال لي رد علي هذا الكلام: وبدأت كلامي بأني سأقول عبارة واحدة وهي يجب أن ننشئ التليفزيون لأنه سيعلم الشعب ويثقفه ويعمل علي محو الأمية بين جميع فئات الشعب وطبقاته.. ورد عبد الناصر سنعطيك مائتي ألف جنيه.. وتحدثت إلي وزير الاقتصاد وأخبرني أن الوكيل المختص بالميزانية سيبحث معك كل طلباتك ووجدته رجلا بيروقراطيا قال لي: أنت رجل ثورة وعارف الحالة المالية السيئة فلماذا تضيع فلوس البلد في هذا المشروع، ولكن طالما مجلس الوزراء وافقك علي مشروعك أنا مستعد للمناقشة.. قلت له نناقش أولا تكاليف المباني والبعثات اللازمة لدراسة هندسة التليفزيون فقال خلاصة الكلام أنت يلزمك ستمائة ألف جنيه.. ولم يكن في مصر شخص واحد دارس هندسة التليفزيون وإصلاحه وكان علينا أن نقيم محطات لتقوية الإرسال التليفزيوني كل خمسين كيلو مترا ولم يكن لدينا مخرجون للتليفزيون فكان لابد من توفير عدد كبير منهم لتغطية كل أنواع البرامج.. وأسندت للكابتن لطيف مهمة الإشراف علي البرامج الرياضية. وكانت هناك فكرة لإقامة التليفزيون بميدان التحرير في حضن مجمع التحرير لكنني رفضت الفكرة وقلت إنني أريد أن أقيم التليفزيون علي شاطئ النيل ليكون هرما ثقافيا فنيا رائعا لمصر. وحتي 10 يناير 1960 لم تكن هناك طوبة واحدة بنيت ولكن بالعمل والعلم والصبر والتخطيط السليم استطعنا أن نختصر عمل خمس سنوات في سبعة أشهر ونبدأ الإرسال في موعده في ذكري عيد الثورة ومازلت أذكر أول يوم لإرسال التليفزيون حين وقفت داخل كشك خشبي ألقي كلمتي والعمال من حولي يستكملون أعمال البناء وقد وصلت إلي هذا الكشك بواسطة سقالة. وحتي تتوافر لنا الأموال لشراء أجهزة التليفزيون اتصلت بثلاثين شركة لتصنيع التليفزيون وقلت لهم نريد التليفزيون بمصر من القاهرة إلي الاسكندرية إلي أسوان والشعب المصري سيقبل علي شراء الأجهزة وطلبت من كل شركة منحي 40 جهازا علي سبيل التجربة حتي أختار الجهاز المناسب ووضعت هذه الأجهزة في الميادين الكبري بالعاصمة وعينت عسكريا علي كل جهاز وقدمنا الفيلم وبرامج المرأة والطفل والكرة إلخ ووقفت البلد كلها أمام أجهزة التليفزيون وأعلنا أنه يمكن لأي مواطن أن يكون لديه تليفزيون بمقدم حجز خمسة جنيهات عن الجهاز الذي يتراوح سعره بين 15و20 جنيها ويقسط الباقي كل شهر ووجدت في أول يوم طوابير ممتدة وأصبح لدينا 80 ألف جنيه حصيلة يوم واحد لدرجة أن أحد المنتظرين لدوره في الحجز مات من الزحام فاحتفلت بأولاد هذا المواطن وقدمت لهم جهاز تليفزيون مجانا وإعانة من التليفزيون الجديد. وفي خلال شهر واحد استطعنا أن نجمع 4 ملايين جنيه وبنيت استوديو وعملت معهدا للسينما وأشرف عليه صلاح أبو سيف واستعنت بنجيب محفوظ لدفع عملية إنتاج 100 فيلم مصري ومدينة للسينما. وقد أسهمت مصر بالتخطيط والتنفيذ لكل محطات التليفزيون في البلاد العربية ومنها الكويتوالعراق وحين أنشأت مصر التليفزيون العراقي قلت للوزير العراقي علي سبيل المداعبة: سنبقي في العراق ستة أشهر لتدريب العراقيين ثم نغادر بلادكم حتي لا تقولوا إننا ندبر لانقلاب! ولم نهمل الإذاعة رغم الزخم الذي أحاط بالتليفزيون فأنشأت (إذاعة الشرق الأوسط) لتكون نمطا مختلفا ذات برامج خفيفة وسريعة وقصيرة وقد قلدنا الفرنسيون وقالوا كنا نريد إذاعة بنفس الفلسفة ونفس المواصفات فأنشأوا إذاعة «مونت كارلو». وقامت علي أكتاف التليفزيون نهضة فنية ومسرحية وثقافية في الستينيات لا تزال تتردد أصداؤها حتي اليوم.