كان عمل والدي رحمة الله عليه يتطلب منه أن ينتقل بين محافظات مصر المختلفة ليقضي بكل منها عدة سنوات وكانت الفترة التي قضيناها في المنيا في أوائل الستينيات من القرن الماضي من أجمل فترات حياتي التي عشتها ورأيت فيها مصر التي أحببناها وأهلها الذين أحب بعضهم بعضاً وأحبوا بلدهم وأخلصوا لها ولم يكن أي منهم يعرف عن نفسه وانتمائه أي صفة أخري غير انه مصري يعيش مع مصريين مثله. كانت أبله عزيزه جرجس مٌدرستنا في مدرسة أبناء الثورة الابتدائية بالمنيا، كانت تعاملنا كأنها والدة لجميع تلاميذ فصلها وكنا جميعاً نبادلها نفس الشعور. تأتي من منزلها صباح كل يوم تمر في طريقها علي منازل ابنائها تلاميذ فصلها وتصطحبهم معها إلي المدرسة وتفعل نفس الشئ في العودة من المدرسة إلي منزلها. وكان لي أن أحظي منها بهذا العطاء والحنان والحب الذي كان يعطيه كل مدرسي الزمن الجميل لأبنائهم التلاميذ. لم تكن تعطي أياً منا درساً خصوصياً أو تتقاضي أية مقابل مادي أو عيني نظير أي من أعمال التعليم والرعاية التي كانت تقدمها لجميع تلاميذها دون استثناء وكان المقابل الوحيد أن تسعد بحبنا لأبله عزيزة كما كنا نناديها وكما كنا ننادي جميع مدرساتنا اللاتي علمننا وأسعدننا. وكنا نعرف منزلها ونعرف زوجها الاستاذ شوقي وابناءها وكانت هي تعرف آباء وأمهات تلاميذها. ثم غادرت المنيا إلي القاهرة بعد انتهاء الفرقة الرابعة الإبتدائية وودعت أبله عزيزة وجميع « الأبلوات» والمدرسين « الأمهات والآباء « بالمنيا. وكنت أرسل لها كروت التهنئة في المناسبات والأعياد بعد تركي للمنيا ثم أخذتنا الحياة كالعادة وتوقفتُ بعد عامين عن ذلك. وبعد خمسة عشر عاماً عاد والدي رحمه الله للعمل بالمنيا مرة أخري وذهبت لزيارته بعد أن كنت قد تخرجت من الجامعة وعملت معيداً بها وقاربت علي الحصول علي درجة الماجستير في هندسة الحاسبات والتحكم الآلي فمشيت في شوارع المنيا معتمداً علي ذاكرة الطفل الذي تركها منذ سنوات طويلة حتي وصلت إلي منزل أبله عزيزة جرجس وطرقت الباب ففتحت لي أبله عزيزة وتعرفت أنا طبعاً عليها لأن شكلها لم يتغير ولكن المفاجأة الكبري لي أن تعرفت علي واحتضنتني وقبلتني كما كانت تفعل من خمسة عشر عاماً مع ابنها وتلميذها - ودخلت منزلها - الذي لم يتغير منذ أن عرفتها لأنه لا يوجد دروس خصوصية أو مصدر آ خر للدخل غير مرتبها ثم معاشها هي وزوجها ولكن كانت السعادة تملأ قلبها وبيتها، وطلبت من بنتها أن تحضر الكرتونه التي تحت سريرها وفتحتها وإذا بها كروت التهنئة التي ارسلتها لها منذ خمسة عشر عاماً وإذا بالكرتونة أيضاً تحوي كراساتي عندما كنت تلميذاً عندها حيث دأب المدرسون في ذلك الوقت علي الاحتفاظ بكراسات الطلبة المتفوقين وجلست معها ومع أسرتها نتجاذب أطراف الحديث ونتذكر الأيام الجميلة التي مضت ونرجو أن تعود وواظبت علي زيارتها كلما زرت والدي في المنيا أيام عمله هناك وكذلك عند زيارة أسرة زوجتي بالمنيا. قد يكون حباً في الأيام الجميلة التي عشناها وعاشتها مصر (وطبعاً حباً في خلق زوجتي وأسرتها العزيزة ) واستمررت علي ذلك حتي توفي الله أبلة عزيزة رحمها الله وبعد سنوات وعندما أصبحت عميداً ومسئولاً بالجامعة وإذا بشاب يدخل علي ّ ومعه طالبة التحقت بالكلية التي أعمل بها وكان هو ابن أبلة عزيزة والطالبة هي حفيدة أبلة عزيزة وظللت أراعيها وأعاملها كابنتي كما كانت جدتها تعاملني فكما تدين تدان. تذكرت هذا الآن بمناسبتين أولاهما بمناسبة ما يحاول أعداء الدين وأعداء الوطن أن يفرقوا بين المصريين ويقسموهم فأردت أن اذكر نفسي بمصر وطبيعة أهلها وأؤكد لنفسي أن مصر لا تنقسم ولا تتفرق. والمناسبة الثانية الغالية علينا جميعا ً هي عيد الأم. فهذا أول عيد للأم يأتي عليّ وأمي ليست معنا فإلي من سأذهب وأطلب الدعاء هذا العام.