جمال الغيطانى »في القاعة المهيبة بقسم الدراسات الشرقية، جامعة شيكاجو، احتشد الأساتذة والطلبة، الكل جاء لوداع الدكتور فاروق عبدالوهاب المصري الذي ترك أثراً عميقاً..« حديث طويل جري بيني وبين د. فاروق عبدالوهاب مصطفي، بالتحديد أول أبريل الماضي، حول كتابي التجليات، كان الجزء الأول منه قد صدر في الطبعة الانجليزية منذ أسابيع، خطط مارك لينز مدير قسم النشر بالجامعة الأمريكية لإصدار الرواية في ثلاثة أجزاء كما صدرت الطبعة الأولي منها في أوائل الثمانينيات عن دار المستقبل العربي التي أسسها الأستاذ محمد فائق وللأسف توقفت، كان صوته هادئاً، بطيئاً، عميقاً، أبدي ملاحظات حول الطبعات المختلفة، وحدثني عن استعداده لترجمة ما تبقي وعن أمور أخري، مرت أيام معدودات، في الرابع من أبريل فوجئت برسالة عبر البريد الالكتروني من زوجته الأستاذة كاي حككيان، زميلة بالجامعة وتدرس الأدب العربي بالجامعة، تعرف إليها عام ألفين وأربعة، تزوجا عام ثمانية، أمضي برفقتها السنوات الخمس الأخيرة في هدوء واستقرار بعد حياة موفقة علمياً، متعثرة في الجانب الشخصي أحياناً، ترجع معرفتي به إلي الستينيات، عندما كان يعمل في كلية الآداب، يدرس الأدب الانجليزي، ويكتب مقالات نقدية عن المسرح المصري ويشارك في تجمعات المثقفين المصريين وقتئذ، وأشهرها ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية في مقهي ريش والتي كانت محوراً مهماً للقاء المبدعين ببعضهم، وكان تلميذاً للدكتور رشاد رشدي وصديقاً حميماً للدكتور سمير سرحان والدكتور عبدالعزيز حمودة، والدكتور فوزي فهمي والكثير من المثقفين، لم يكن علي خلاف حاد مع أحد، يليق به هذا الوصف المصري »طيب« وظل بنفس سماته حتي بعد إقامته الطويلة في الولاياتالمتحدة، لا أعرف الظروف التي هاجر فيها إلي أمريكا عام 8691، ولكنه اعتباراً من ذلك التاريخ استقر بجامعة شيكاجو وارتقي في سلكها العلمي حتي أصبح أستاذاً لكرسي ابن رشد ولدراسات الشرق الأوسط، كان ملازماً لطلابه من مختلف الجنسيات، بحجرة التدريس اعتاد الجلوس إلي مقعد معين، عندما وصلت إلي مركز دراسات الشرق الأوسط كان أحد زملائه يجلس علي نفس المقعد، أشار إليه، قال إن الدكتور فاروق كان يجلس دائماً في نفس المكان، وصباح اليوم التالي لرحيله وضع أحد زملائه أو طلابه، لا أحد يعرف بالضبط وردة في نفس مكان جلوسه. القاعة الشرقية مساء الجمعة، الحادي والثلاثين من مايو، مضيت إلي القاعة الشرقية التي تحتل مبني مستقلا، عندما وصلت إلي مطار شيكاجو أمس قادماً من نيويورك، لم أجد صعوبة في التعرف إلي »جارت« طالب الدكتوراه، تلميذ الدكتور فاروق والذي تطوع لمرافقتي منذ وصولي وطوال الوقت الذي أمضيته في اليوم الأول، رافقني إلي مدخل القاعة كلاسيكية الطراز، توحي بقاعات الكنائس، جميع دور العلم في الغرب، خاصة العريق منها يحمل سمات دينية، هذه أصول ترجع إلي مصر القديمة، العلوم كانت في المعبد، من هنا يحمل لقب »الحكيم« في العامية المصرية معاني متعددة، فهو الطيب، والفيلسوف، والمعلم، انتقل ذلك إلي اليونان ثم إلي أوروبا، ورغم أن الولاياتالمتحدة تعتبر دولة شابة بالقياس إلي دول العالم القديم إلا أن الحرص علي العتاقة تجده في العمارة، والأثاث، المرجعية باستمرار الحضارات القديمة، بالتحديد اثنتين، المصرية »مسلة واشنطن« واليونانية، الاغريقية »مبني الكابيتول، المتاحف الكبري، بعض الوزارات« في جامعة شيكاجو تتجاور الحداثة مع العتاقة، ثمة مبني تبرع ببنائه روكفلر الرأسمالي الشهير الذي تبدو آثاره في مواقع عديدة ، شيد علي هيئة كنيسة نوتردام الفرنسية، لمحت زملاء الدكتور فاروق، فريد دونر، أوربت بوشكين، فرانكلين لويس، مايكل سلز ، والسيدة الطاهرة كتب الدين »أعجبني اسمها« تنتمي إلي طائفة البهرة أحفاد الفاطميين ويقيم منهم في القاهرة حالياً خمسة عشر ألفاً تقريباً، القاعة التي قدرت عدد مقاعدها بحوالي مائتي مقعد، لا يوجد بها مكان واحد خال، عدد كبير قدرت أنهم من الطلبة يقفون إلي الخلف، حان الوقت الذي يبدأ فيه الحفل، عزفت موسيقي كلاسيكية من موسيقي باخ، ومقطوعة من موسيقي البلوز »نوع من الجاز حزين جداً وكان فاروق يفضلها وقد حدثني يوماً عن تأثره بها ودورها في مساعدته علي تجاوز محن شخصية مر بها«، بدأ الأستاذ نيوفان دن هوت رئيس قسم لغات الشرق وحضاراته، تحدث عن موقع د. فاروق وعلاقته بالجامعة وموقعه في قلوب زملائه وتلاميذه، علي شاشة كبيرة كانت تتوالي صور الراحل ومعظمها مبتسم، في الجزء الثاني من الحفل دعيت إلي إلقاء كلمتي وكانت باللغة العربية، وعلي الشاشة تظهر ترجمة لها قامت بإعدادها زوجة الراحل السيدة كاي، نص الكلمة، الفقرة التالية من اليوميات، ثم تحدث شقيقه الأستاذ صفاء مصطفي والذي حضر برفقة زوجته، ألقي تفاصيل عن حياة الفقيد وطفولتهما معاً التي بدأت من مسقط رأسهما في طنطا، ثم كينيث جون المسئول عن حقوق الإنسان في شيكاجو، ومارجريت ليتفين من جامعة بوسطن، وهي متخصصة في المسرح المصري، تتقن العربية، ألقت قبل يوم محاضرة عن المسرح المصري حرصت علي حضورها والمشاركة في المناقشات التي دارت بعدها، توالت الكلمات من بيللي هوليداي، وجون وود، وأوربت باشكين، وكلهم زملاء الراحل، الملاحظة أن الحفل رغم كونه تأبينياً لراحل، إلا أن الكلمات حفلت بالكثير من التفاصيل التي كان بعضها ساخراً، يثير ضحك الجمهور، ضحكات جماعية، مفاجئة كرد فعل علي بعض الذكريات المتعلقة بالراحل، ضحكات تبدأ فجأة وتنتهي كما بدأت، عندما عدت إلي مقر إقامتي ورحت أستعيد تفاصيل الحفل، اللون البني القاتم للقاعة، توالي صور الدكتور فاروق علي الشاشة، بعضها أثار ضحك الحاضرين، كان فاروق علي سجيته وبساطته، مدير المركز دعا من يرغب إلي إلقاء كلمات قصيرة تشبه الرسائل الموجزة، هذا الجزء كان شديد الحيوية من الحفل، خاصة عندما تنتهي رسالة ما بجملة مثل »أستاذ فاروق.. لكم نحبك«، خلال هذه الكلمات ترددت الضحكات أيضاً، وعندما استعدتها اكتشفت أن ذلك الضحك من أشد ما سمعت تعبيراً عن الحزن في مواجهة الفقد، ورحيل الأحباب ومن نعتز بهم، ضحك له رَجع وترجيع، له أصول تبقي في الروح ملقية بآثار دموع، اختتم الحفل بكلمة زوجته الأستاذة كاي. كاي تتحدث بدت لهجة زوجته هادئة، واضحة. احييكم جميعا .. قبل كل شيء يجب أن أشكر الجميع لمجيئهم للحديث عن فاروق، شكرت الذين قاموا علي تنظيم الحفل، ثم قالت ان فاروق كان محبا للحياة، متعدد الامكانيات، وكثيرا ما كان يضطرب نومها ليلا ازاء نشاطه عندما يتحرك كثيرا ليعد القهوة او فنجانا من الشيكولاتة تمهيدا لعمل طويل، اما انه يعد محاضرات للتدريس أو يواصل ترجمة احد الاعمال الروائية التي اقترب موعد تسليمها، كان داخله مصادر مختلفة للعمل وللرغبات، اهتماماته متعددة، كان لديه شغف بتاريخ الكومبيوتر والتعامل معه ومتابعة تطوراته، كان دائم التردد علي متحف تطوير الكومبيوتر، يحتفظ في عقله بموسيقي لا يكف عن سماعها من الايبود الذي قام بتسجيل مختارات عن الموسيقي عليه، والايبود جهاز في حجم علبة سجائر صغيرة يمكن تسجيل محتويات اذاعة كاملة عليه. كان محبا للموسيقي، كان ديموقراطيا، مؤمنا بالتعايش بين اصحاب العقائد المختلفة، يصغي الي الجميع بهدوء ويتقبل ويتحاور، كان يتمتع بروح ساخرة، محب للنكتة، كان مشاركة لاطلبة العرب في جميع انشطتهم خاصة عند وقوع حوادث كبري في لبنان أو غزة، كان يشارك في اعمال البيت، ويحرص علي اختيار لوازمه من البقال، يجيد الطبخ، خاصة البامية التي كان يعشقها، كان يعد الطعام بنفس الدقة الشديدة التي يعمل بها عند تحضير الدروس او الترجمة، احب التدريس واحب تلاميذه وبادلوه حبا بحب. فاروق كما عرفته لم يحبني ويبادلني العاطفة فقط، انما كان يحترمني ايضا، منحني الثقة، الشعور بالرفقة الآمنة، وكان راضيا متقبلا ما مر به في حياته، كانت كلمة زوجته كاي مؤثرة جدا بهدوئها وتفاصيلها، في نهاية الحفل توالت صور عديدة، لحظات ملتقطة من حياته، بعضها كأني اوشك علي الحديث اليه، لم يكن ثمة فرق بين فاروق الذي عرفته، وفاروق الذي رأيته في الصور، في اليوم التالي احدي صوره تصدرت الصفحة الاولي لاكبر صحف شيكاجو واحدي كبريات الصحف في الولاياتالمتحدة »شيكاجو تريبيون« و»شيكاجو الارون«. »رحيل استاذ العربية المحبوب عن سبعين عاما«. قبل أن تنهي الزوجة كاي كلمتها، اخرجت هاتفها المحمول، ادارته، وسمعنا صوت الدكتور فاروق عبدالوهاب يقول بالانجليزية، صوته المميز »هاي.. مع السلامة..« هنا ظفرت دموعي.. نص كلمتي حول الفقيد جري ذلك خلال الزيارة الاخيرة الي القاهرة التي قام بها الأخ، الصديق، من أدين له بالفضل الدكتور فاروق عبدالوهاب، أذكر كل لحظة كأنها تمر بي الآن، وبيننا السيدة كاي رفيقة دربه ورحلته، اذ شهدت ما أقوله واستعيده. عدت الي البيت بعد الغروب بمجرد دخولي رن جرس الهاتف، كنت مرهقا بعد يوم طويل مزدحم بلقاءات شتي وتفاصيل عمل صحفي مرهق، رفعت السماعة لأجيب، اعرف صوته، ايقاعه، خشن الي حد ما، عميق، معبر عن نفس جياشة، هادئ دائما، لكنه في تلك المحادثة لم يكن ذلك الذي أعتدته. »يابن احمد الغيطاني.. اجبته دهشا. لم يحدث أن ناداني بذلك نعم.. تعال فورا.. تعال الآن.. تساءلت عما جري؟، قال انه ينتظرني، لن يقبل المراوغة، ردد اسم ابي الذي كان يتصل بي للحديث عنه وليسمع مني، كان يعمل في ترجمة »كتاب التجليات«، ومن خلال علاقتي به أيقنت انه لا يقدم علي ترجمة عمل الا اذا تعلق به وتقبله، بالطبع تختلف الدرجات، غير انني أذكر محبته وتمثله لأحداث وتفاصيل »وقائع حارة الزعفراني« التي قرأها منذ صدورها عام 9691، كان يعرف شخصياتها وكأنهم سعوا في حياته، خالطهم وعاشرهم، هام بالنص، بذل جهدا في محاولة نشره بالانجليزية لسنوات، خاصة بعد ان اختاره الدكتور ادوارد سعيد لترجمة »الزيني بركات«، كان ادوارد سعيد قد قرأ الرواية بالعربية ورشحها للترجمة مطالبا بضرورة نقلها الي اللغات الغربية، كتب مقالا في الصنداي تايمز، اشاد فيه بالزيني بركات وروايات الياس خوري، صدرت الزيني بركات عام 5891 عن دار لوسوي في باريس، اختار ادوارد سعيد الدكتور فاروق عبدالوهاب باعتباره افضل من يمكنه ترجمة هذا النص الصعب والمكتوب بلغة القرن السادس عشر، جاءت الترجمة مؤكدة لرؤية ادوارد، بعد صدورها عام 8891 كان الدكتور فاروق عبدالوهاب قد فرغ من ترجمة »وقائع حارة الزعفراني«، اقدم علي اتمام الترجمة بدون اتفاق مع أي دار، انما حبا في النص، وتعلقا به، ذلك التعلق الذي عرفته بعد ان قرأ كتاب التجليات مازلت اذكر صوته ذلك المساء وهو يطلب مني عبر الهاتف.. »تعال فورا.. استحلفك بأحمد الغيطاني « لم يكن ثمة خيار.. عدت مرة أخري الي الطريق، اسكن جنوب العاصمة، ويقع مسكنه المطل علي النيل شمالا، قطعت حوالي ستين كيلو مترا مستغرقا في صوته وندائه وما وصلني منه، عرفته اسما قبل ان اعرفه شخصا، كنت قارئا مواظبا لمقالاته في مجلة المسرح، والمجلات الثقافية الأخري، كان رغم وضعه الاكاديمي المتميز الراسخ حاضرا بقوة في الحياة الثقافية العامة، كان تخصص في النقد المسرحي، يترجم نصوصا نقدية ومسرحية الي العربية، هكذا يمكن اعتباره جسرا بين ثقافتين انسانيتين، بعد يونيو 7691 وهذا تاريخ له شأنه، مؤثر، مفصلي في مسيرة جيلنا كله والاجيال التي سبقته أو تلته، اختار أن يرحل، جاء الي الغرب واستقر في جامعة شيكاجو، إلا انني عندما استعيد السنوات التالية لانتقاله أكاد أوقن أنه لم يغادر مصر، كان حاضرا بانتاجه الثقافي، وفي اجازاته الصيفية الطويلة، زارني في بيتي، وتعرف الي اسرتي، الي مكتبتي، تقصي اخباري عن بعد وقرب، لم يتأخر عن ابداء ملاحظات دقيقة عما قرأه، لم يكن متابعا دقيقا لابداعي الروائي والقصصي، انما لكتاباتي الصحفية، سواء تلك المتعلقة بالحياة الثقافية خاصة خلال رئاستي لتحرير اخبار الادب التي اسستها عام 3991وأمضيت سبعة عشر عاما رئيسا لتحريرها، كان من قرائها المواظبين والمشاركين في تحريرها ونقادها بالرأي، كنت أصغي الي ما يبديه بعمق، كان بدافع الصدق والاخلاص وتلك المحبة الصافية، كان سعيدا بصدور »وقائع حارة الزعفراني« وكان المفروض أن يترجم الجزءين الثالث والثاني من كتاب التجليات، خلال السنوات الاخيرة لم يأتني صوته عبر المسافات البعيدة او القريبة الا هادئا، مصحوبا بذلك الصدي الخفي، كان ملازما لي باستمرار، خاصة في المحن والظروف الصعبة التي أمر بها، كان صديقا رائعا، وكنت اطمئن دائماعندما يخطر لي ساعيا في ذاكرتي عبر الازمنة المختلفة التي عرفته فيها، كنت اطمأن وتدركني سكينة عندما أعي أنه هناك، ليس مهما اين؟، المهم موجود، يسعي، هذا الهدوء وذلك الرضي اللذان شعرت بهما في سنواته الاخيرة أرجعه الي الرفقة الحانية للسيدة كاي التي وفرت له ذلك الحنان، وتلك السكينة، هذا ما نما الي خلال اتصالاتنا الاخيرة والتي سبقت انتقاله المفاجيء، المباغت. اعود الي تلك الليلة.. عندما وصلت الي بيته، كان يجلس في صدارة الصالة، هب يصافحني ويعانقني، دموعه ساخنة في ذاكرتي، كان يردد »اوصيك بأحمد الغيطاني..« توحد به بعد ان فرغ من ترجمة »كتاب التجليات«، توحدت به، جمعنا أبي الذي خرج قبلنا الي ضوء النهار كما كان يصف اجدادنا المصريون الرحيل الابدي، لم يمر عام، بل اقل من عام، خرج الصاحب النجيب الي ضوء النهار، وبقيت انتظر، واستعيد هذا الحال الغريب الذي جري لي تلك الليلة. في الزمن المصري القديم كان آخر طقس يودع الراحل به ما يعرف بفتح الفم، تصاحبه صيحة من المودع، لا اجد انسب منها الآن، اذ يقول »انهض.. انك لست بميت..«.