أصحاب الأخلاق الراقية هم أكثر الناس معاناة في الحياة ، لا أحد يعرف لغتهم إلا من كان مساويا لهم في المبدأ، وسمو النفس، ورقي الخلق، ويقظة الضمير، في غياب تلك القيم يمرح الافاقون، والنصابون، والحواة، والمشعوذوين، والكذابون، وتجار الكلام، والجهلاء بصحيح الدين . تعرفت في اليابان علي طبيب سوداني غادر عالمنا العربي هربا من التخلف، وازدواج العقلية التي تقول ما لا تفعل، وتفعل عكس ما تقول، عقلية وصفها بالتكلس وفقر الابداع، روي لي انه سافر إلي بريطانيا لامتحان الجزء الأول من تخصصه الطبي، رسوم الامتحان كانت 309 جنيهات إسترلينية، لم يجد " فكة " فدفع 310 جنيهات، لم يكن لدي محصل الكلية جنيه استرليني هو فارق المبلغ، المفاجأة انه فوجيء بعد عودته للسودان بخطاب اعتذار من الكلية في طيه شيك بواحد جنيه استرليني، تلك هي الأمانة، والدقة، ومصداقية التحضر، ورقي السلوك الاداري والإنساني، دون طنطنة بلاغية، أو صراخ اجوف، أو متاجرة بمظاهر كدابة، شعرت بالألم يعتصره وهو يروي القصة مقارنا بين الدقة المتناهية التي يتمتع بها المواطن البريطاني، وانعدام المصداقية عند السواد الأعظم من بني وطننا العربي الذين يجافون تعاليم دينهم الذي يحث علي الصدق، ويحرم المتاجرة بعقول الناس الغلابة . أخونا السوداني الذي درس في بريطانيا، وفضل ان يعيش في قرية " توياما " المعروفة بأنها أم الصيدلة في اليابان، قال لي إنه عندما كان في بريطانيا تعود عند خروجه من مترو الأنفاق ان يتوقف عند " كشك" سيدة عجوز، لمطالعة عناوين الصحف المعلقة علي " استاند " بجوار الكشك، ثم يشتري منها "لوح" شيكولاته بثمانية عشر بنساً، في احد الأيام لمح العجوز وهي "ترص" ألواح الشيكولاته علي"رف " آخر بسعرعشرين بنساً، سألها " اليوم أري نوعا جديدا من الشيكولاتة "، أجابته " بل هو نفس النوع الذي تشتريه "، واصل قائلا " يبدو ان هناك اختلاف في الوزن أو الحجم ؟ "، اجابت " نفس الوزن، نفس الحجم "، قال بدهشة " اذا كان الأمر كذلك فلم الاختلاف في السعر؟ "، أجابت العجوز " الصحف نوهت لمشاكل في نيجيريا التي يأتي منها الكاكاو للمصنع في لندن، لهذا طرحت الشركة منتجها بسعر أزيد، قال لها " ومن الذي سيشتري بعشرين بنساً مادام نفس النوع علي الرف الآخر بثمانية عشر بنسا؟ "، قالت " عندما تنفد القطع التي بالسعر القديم سوف يشتري الناس بالسعر الجديد "، قال لها بالعقلية العربية " لماذا لا تخلطين النوعين معاً وتبيعين بالسعر الجديد.ً؟ "، فتحت العجوز فمها في فزع : "هل أنت حرامي؟"! يختم صديقنا حكايته قائلا "مرت الاعوام ولازل سؤال السيدة يرن في اذني وأنا أطالع عبر شاشات التلفاز من يحدثوننا عن الشرف والأمانة والشرع والشريعة، أعرف بعضهم تمام المعرفة، يحتكرون سلعا معينة، يكدسونها في مخازنهم ليرفعوا الأسعار، لا يرون في ذلك حراما، يدعون ان التجارة شطارة، بينما الدين يحثنا علي الأمانة . فمن يا تري الحرامي ؟!