لم يظهر وزير التعليم العالي أي رد فعل علي مقالة الأسبوع الماضي. أما رئيس جامعة القاهرة فقد كلف مشكورا زميل الدراسة وصديقي الأستاذ الدكتور سامي عبد العزيز عميد كلية الإعلام، التي تخرجنا فيها، ليتصل بي طالبا مني أن أذهب معه لزيارة رئيس الجامعة في مكتبه ليوضح لي حقائق وصفها سامي بأنها غائبة عني ، رغم أنه كان من الألطف أن يتصل بي رئيس الجامعة بنفسه ليوجه لي دعوته مباشرة. تذكرت وزراء آخرين عرفتهم لا يستنكف الواحد منهم عن الاتصال مباشرة بأصغر صحفي ليصحح له معلومة أو يوضح وجهة نظره في موضوع كتبه هذا الصحفي. هذا ما يسمونه (الحس السياسي) و(احترام الصحافة) بصفتها معبرة عن الرأي العام. الاتصال هنا لا علاقة له بشخص كاتب المقال ، وإنما علاقته بالموضوع المكتوب وبقراء هذا الموضوع الذين يقدرون بالآلاف حسب الصحيفة التي نشرت المقال. ليس من عاداتي أن أوجه عناوين مقالاتي لمسئولين . كان من الممكن أن لا أوجه عنوان المقالة لوزير أو لرئيس جامعة. ولكني أردت أن ألفت نظرهما مباشرة لأهمية الموضوع الذي أكتب فيه. فهما مسئولان عن حالة الجامعة وعن حالة مكتبة الجامعة لكونها من أهم أدوات التعليم والبحث العلمي من جهة، ولقيمة المكتبة التراثية بصفة خاصة . لقد اندهشت أن ثمانين عاما مرت علي مخازن المكتبة اخترعوا خلالها التكييف ووسائل الإنذار والإطفاء الآلي للحريق ولم يفكر أحد من مسئولي جامعة القاهرة في تزويد المكتبة بنظم للتكييف والإنذار والإطفاء الآلي . يعود للقدر وحده أنه لم يشب حريق في هذه المكتبة من قبل في ظل هذه الظروف البالية؟ عدم وجود تكييف مركزي وأجهزة قياس للرطوبة في مخازن أي مكتبة يعني السماح للعوامل الجوية السيئة بالتأثير سلبا في مقتنياتها. أما عدم وجود أجهزة إنذار وإطفاء آلي من مواد كيماوية خاصة يعني السماح بتدمير المكتبة بما فيها. أما عن المقتنيات فبلا شك قد أضيرت عبر عشرات السنين بتأثير العوامل الجوية من جهة وعدم وجود معمل ترميم ملحق بها من جهة أخري. وعدم الاستعانة بأي معمل ترميم خارج الجامعة. عندما زرت المكتبة وجدت غرفة لتجليد الكتب، وكأن التجليد هو المشكلة. ومع ذلك فأجهزة التجليد هناك قد عفا عليها الزمن وتعمل بفضل إخلاص العاملين في المكتبة. هل يستطيع أحد أن يذكر حجم الهالك في هذه المكتبة عبر السنين؟ إذا كان هناك ورق في مخزن يكون هناك هالك نظرا لضعف خامة الورق ما لم توجد وسائل علمية للحفاظ عليه . لماذا لم يفكر أحد من المسئولين في الاستعانة بخبراء دار الكتب والوثائق القومية لإنقاذ ثروة المكتبة المركزية التراثية في جامعة القاهرة؟؟ أمر غريب آخر ! والدار كما عهدتها فيها معامل حديثة وخبراء أعتز بهم، وهي قريبة من جامعة القاهرة ويتبعون الدولة ذاتها. عندما دخلت بهو مبني المكتبة شعرت أنني ما زلت في زمن افتتاحها في الثلاثينيات . هذا جيد بالنسبة للمبني كعمارة، ولكنه سيئ بالنسبة لمكتبة كخدمة معرفية . إذ تقابلك مثلا فاترينات زجاجية طويلة قديمة وإضاءة متواضعة وأثاث متهالك لتصعد سلما أكل عليه الدهر وشرب وتشاهد حجرات لموظفين غلابة (الحجرات والموظفون). وتدخل قاعات مطالعة بائسة. أحدث ما فيها ، للمفارقة ، قاعة فاقدي البصر! في البدروم وجدت حالتين من التناقض العشوائي: قاعة فاخرة جيدة الإضاءة بدت نشازاً عن المبني كله. سألت عنها فقالوا لي إنها قاعة كلية الآداب. والكلية هي التي طورتها هكذا. ضحكت في سري من المنطق الإقطاعي الذي وصل الي محاريب البحث العلمي عندنا. إذا كانت كلية استطاعت أن تطور قاعة لها ، فكيف لا تستطيع الجامعة الأم تطوير قاعات مكتبتها المركزية؟؟ علي جانب آخر وجدت بابا مغلقا بجنزير وعليه شمع أحمر. ظننته بابا لحجرة فيها ممنوعات أو أشياء متحفظ عليها بحكم محكمة. لكنهم قالوا لي أنه باب لقاعة كبيرة بها مقتنيات ثمينة خافوا علي هذه المقتنيات من السرقة فأغلقوا القاعة بالشمع الأحمر؟؟!! أشعر بخجل وأنا أكتب عن هذه القاعة التي لم أتمكن من دخولها بالطبع . عرفت أنها مغلقة هكذا منذ عدة سنوات لم يمسسها بشر خلالها . وأنها مجاورة لدورة مياه ويخشي من تأثير ضار لدورة المياه علي القاعة . سألت هل من أمر بإغلاقها له علاقة بالمكتبة كعلم أو كسلطة إدارية ؟ قالوا لا. بالذمة: هل هذا حل للحفاظ علي مقتنيات مكتبة من السرقة، أن نغلق عليها في ظلام دامس لسنوات ؟ وماذا عما قد يكون بهذه القاعة من حشرات أو قوارض؟ وهل أثرت فيها دورة المياه المجاورة ؟ لا أحد يعلم. أقول بعد هذه الجولة أن هذه المكتبة العريقة صممت كمبني ومخازن وقاعات اطلاع علي أسس سليمة كمكتبة عامة جامعية طبقا لما كان معروفا وقت إنشائها. وضمت مصاعد كهربائية خاصة بالكتب تصل المخازن بقاعات المطالعة. لكنهم تركوا هذه الدرة الثمينة لتبلي. والمكتبة، كما تعرفون، من أهم وسائل البحث العلمي. والمكتبة هنا هي مكتبة أقدم وأهم جامعة في مصر. ومصر كما تسمعون وراءها كم ألف سنة حضارة، وأمامها 500 أفضل جامعة في العالم.. إذن فالمطلوب الآن وفورا درء الفضيحة وإيقاف المأساة. بالبدء في مشروع لإنقاذ المكتبة التراثية لجامعة القاهرة والحفاظ علي مقتنياتها وصيانتها وتحديثها كما نري في الجامعات الكبري. لن اضرب مثالا بجامعة في أوربا أو الولاياتالمتحدة ، بل أسأل الوزير ورئيس الجامعة هل زارا مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة بالجامعة الأمريكية في القاهرة؟ هل شاهدا كيف يحافظون علي ثروتها المعرفية؟ وكيف وفروا لها أحدث وسائل الترميم والتكييف والإنذار والإطفاء وبرامج الكمبيوتر المتخصصة في المكتبات العامة والتي تتيح التسجيل والفهرسة والتصنيف والاستعلام إلكترونيا؟ بينما لا تزال مكتبة جامعة القاهرة تعتمد علي الكروت الورقية في التسجيل والاستعلام، وهو النظام الذي بدأ استخدامه في القرن الثامن عشر ، ونحن في القرن الواحد والعشرين ؟! وفي مكتبة جامعة القاهرة ما لا يوجد في مكتبة الجامعة الأمريكيةبالقاهرة . لقد وهبت العائلة الملكية في عهد الملك فؤاد هذه المكتبة لجامعة القاهرة من مقتنيات الأمير إبراهيم حلمي التي جمعها في قصره المسمي (شيرين) في مدينة نيس بفرنسا ، ووافق مجلس الجامعة علي الهبة في مايو 1927 ولا يحق أن يفرط فيها - بالإهمال- أي مجلس للجامعة . الخلاصة: لدينا كنز يجب المحافظة عليه وتعظيم الاستفادة منه. لذا من الواجب البدء في مشروع متكامل يشمل الجوانب المعمارية والعلمية للمكتبة وهي: ترميم المبني من الداخل ترميما دقيقا للحفاظ علي الزخارف وعناصر الإضاءة القديمة الموجودة علي الحوائط والأسقف. تحديث المبني من الداخل بما يتلاءم مع وظيفته كمكتبة وذلك بتحديث الأرضيات وعناصر الفرش الداخلي والأثاث المكتبي وعناصر الإضاءة ودورات المياه وغيرها. تزويد المكتبة بنظم مناسبة لتكييف الهواء والتحكم في رطوبة المخازن والإنذار ضد الحريق والسرقة والإطفاء الآلي وبرامج وأجهزة الكمبيوتر. إنشاء معمل ترميم حديث لمقتنيات المكتبة. عدم الفصل بين المخازن وقاعات الاطلاع التي يجب تحديثها. لقد بدأت الجامعة نفسها باكتتاب شعبي بجنيه واحد. فإن احتاجت لدعم مادي لمكتبتها يمكن للوزير ورئيس الجامعة أن يبدآ حملة قومية للتبرع من أجل هذا المشروع، وسيقف وراءها كثير من المخلصين المحبين لهذا البلد وبخاصة من خريجي الجامعة العريقة. المهم إنقاذ المكتبة وتطويرها.