خرجت مؤخرًا بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن الفقر متعدد الأبعاد، لتشير إلي وجود نحو 8.5 مليون مصري يفتقدون إلي خدمات مقبولة علي صعيد التعليم والصحة ومستوي المعيشة، ويمثل هؤلاء السكان حسب بيانات جهاز الإحصاء نحو 10.5 ٪ من إجمالي السكان في مصر. والحديث عن الفقر ومعدلاته واتساع رقعته في مصر ليس بالجديد، ولكن المؤسف أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تستهدف تحسين أوضاع الفقراء لم تلق الاهتمام والرعاية الكافية، لا من قبل الحكومات المتعاقبة علي مدار العقود الماضية، ولا من قبل المجتمع الأهلي. ومعالجة قضية الفقر علي الرغم من أنها من صميم دور الدولة، فإن المجتمع الأهلي له دوره، الذي يلقي اهتمامًا علي الصعيد الأكاديمي والواقعي. وتأتي الزكاة كعامل مشترك بين الدولة والمجتمع الأهلي لتقدم اسهاماتها في معالجة قضية الفقر. فالزكاة واحدة من هدايا الإسلام المتعددة إلي البشرية، فهي تحفظ علي الإنسان كرامته، فلا تمثل عطاءً شخصيًا، أو منة من الأغنياء علي الفقراء، بل هي حق الفقراء في أموال الأغنياء، يقوم بجمعها وتوزيعها ولي الأمر، من خلال أحد مؤسسات الدولة، يتوفر لها الاستقلال المالي والإداري، وتستهدف أوضاع الفقراء والعاطلين، وفق الضوابط الشرعية. والحمد لله نشهد حرص الكثير من المصريين علي إخراج زكوات أموالهم، وانتشار الجمعيات الأهلية التي تتلقي أموال الزكاة وتوظفها في مصارفها الشرعية. وهو أمر إيجابي، ولكن طبيعة الزكاة وواقع الفقر يفرضان أداء مختلفا بحيث تتم عملية مؤسسة الزكاة جمعًا وإنفاقًا، حتي تؤتي ثمارها في معالجة قضية الفقر. فليس لدينا تشريع ينظم العمل في مجال الزكاة جمعًا وإنفاقًا، وليست لدينا قاعدة بيانات عن الفقراء والمستحقين للزكاة، ولا دافعي الزكاة، مما يجعل البعض يحصل علي أموال الزكاة من أكثر من جمعية وهناك آخرون لا يمكنهم الوصول إلي أموال الزكاة. تجربة ماليزيا يمكن الاستفادة منها في جانب مؤسسة الزكاة، علي الرغم من اعتمادها لمبدأ اختيارية التعامل مع صندوق الزكاة، ولكنها مهيكلة بوجود قانون منظم لعمل مؤسسة الزكاة، ويوجد صندوق مركزي، وصناديق فرعية في الولايات الماليزية المختلفة، والعلاقة بين الصندوق المركزي والصناديق الفرعية هي علاقة العجز والفائض. وأهم ما ميز التجربة الماليزية وجود برنامج عملي تمثل في مؤتمر دولي عام 1990 عن الزكاة، وخرجت منه ماليزيا ببرنامج عملي تمثل في قانون ومؤسسة قومية، أما نحن في مصر فلدينا مؤتمرات ودراسات وندوات عن الزكاة لا تعد ولا تحصي. وكلما تكلم أحد عن وجود مؤسسة شاهدنا العديد من الحوارات الجدلية التي تفسد الموضوع وتضيع علي مصر فرصة الاستفادة من أموال الزكاة في معالجة قضية الفقر. وحتي نضع الأمور في نصابها، لابد أن نوقن أن الزكاة سوف تساهم في معالجة قضية الفقر بجوار عوامل ومقومات أخري، ولكن الزكاة بمصارفها المتنوعة وطبيعة ايراداتها المستمرة، تعطي صناعة السياسة المالية والاجتماعية فرصة ومتسع لتبني برامج طويلة الأجل. وبخاصة بند وفي سبيل الله الذي يتسع لكثير من بنود الإنفاق التي تخص الفقراء. فإذا ما علمنا أن الفقراء تصدروا بنود الإنفاق في مصارف الزكاة، علمنا أن الفقر متعدد الإبعاد في مصر هو المجال الرحب لتوظيف أموال الزكاة. فالله عز وجل يقول: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " (سورة التوبة الآية 60) علينا أن نبدأ، فإذا كان التشريع الخاص بالزكاة يخيف البعض، فلنبدأ بوجود مؤسسة يشرف عليها المجتمع الأهلي وتخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، يكون مهمتها الأولي وضع قاعدة بيانات لإيرادات الزكاة ومستحقيها علي نطاق مصر الجغرافي. ومع التدريج في التجربة يمكن في ضوئها صناعة التشريع الملائم. وإن كان لابد من ذكر حقيقة ثابتة تتعلق بالزكاة وهي أنها مسئولية ولي الأمر أي الدولة، جمعًا وإنفاقًا، ولكن قد يتخوف البعض من فساد الأجهزة الحكومية وبيروقراطية العاملين بها، فلا مانع في ظل هذه المخاوف من أن نبدأ في إطار المجتمع الأهلي، ينظم عمل الزكاة وينسق بين الجمعيات العاملة في مجال الزكاة.