النار لم تخمد أبداً تحت الرماد! تاريخ طويل، العديد من محطاته ترجمت صراعاً بين العملاقين الآسيويين: الصين واليابان، من ثم فإن التوتر الذي يشهده بحر الصين خلال الفترة الراهنة، ليس إلا امتداداً لهذا التاريخ علي نحو ما، فرغم ان العلاقات الاقتصادية الضخمة والمتنامية بين بكين وطوكيو ساهمت في تخفيف مرارات الماضي قريبه وبعيده، إلا أن ما في القلب يبقي فيه حتي تأتي لحظة خروجه، وكأنه حمم ظلت مكتومة طويلاً في بركان يغلي وفي هذا السياق يأتي إشهار اليابان لسلاح الانتقام الاقتصادي، تلويحا موحياً مقابل مظاهرات الصينيين العدائية! إذا كان الظاهر أن التصعيد الحالي يعكس خلافا حول ثلاث جزر بين الصين واليابان، بعد أن اشترتها الاخيرة بينما هي في واقع الأمرمحل نزاع، فإن ذلك لا يمثل سوي الجزء الطافي من الجبل الغاطس في اعماق بحر الصين. ربما يكون النزاع الصيني - الياباني الابرز، إلا أنه ليس الوحيد، إذ يطالب بكين بالسيادة علي »كل« بحر الصين، بما في ذلك المناطق القريبة من سواحل العديد من دول المنطقة، لاسيما ڤيتنام والفلبين وماليزيا وبروناي، مما يعني أن المسألة تتجاوز حدود مشكلة تبدو ثنائية بين أكبر قوتين في القارة الصفراء لتتحول إلي أزمة متعددة الرؤوس والأطراف، أو بدقة أزمة آسيوية بالمعني الدقيق لهذا الوصف. ثم إن هناك بٌعداً عالمياً للازمة لأن تجلياتها تتصاعد في منطقة تمر عبرها خطوط بحرية استراتيچية من جهة، وهي تأتي ايضا في وقت تتبني فيه الولاياتالمتحدة استراتيچية جديدة تتجه بمقتضاها للرهان في القرن الحادي والعشرين علي ترسيخ نفوذ وحماية مصالح تتركز في آسيا، والعلاقات عبر المحيط الهادي بأكثر من التوجه التاريخي التقليدي الذي كان معنياً بالعلاقات عبر المحيط الاطلنطي مع أوروبا. من ثم فان تقاطر الكبار في إدارة أوباما علي زيارة آسيا يمثل علي نحو ما نوعا من الاعلان العملي عن انزعاج امريكي من تنامي الدور الصيني في محيطها الاقليمي، والذي يعكس نهما لا يمكن غض الطرف عنه في رغبة بكين كبح جماح واشنطن عقب اعلانها عن استراتيچيتها الجديدة التي لا تخفي إهتماما بآسيا حيث تعتبرها القضية المحورية لسياستها الخارجية، والمنطقة المؤهلة لعقد شراكات مستقبلية تسهم في صياغة ملامح القرن ال12. قراءة زيارة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية، وتقاطعها مع زيارة ليون بانيتا وزير الدفاع في ادارة اوباما لا يمكن فصلها عن سعي واشنطن لتوصيل رسالة واضحة للجميع، للصين أولا لتعي أن الولاياتالمتحدة لن تقف موقف المتفرج علي ما تراه طموحات زائدة عن الحد الذي يمكن أن تتقبله واشنطن، ثم لليابان ومن خلفها كل الدول المشتبكة مع بكين في خلافات حدودية، خاصة ما يتعلق بالحدود البحرية في بحر الصين، ولسان حال كلينتون وبانيتا: واشنطن لن تترككم وحدكم في مواجهة الصين اطمئنوا. بل ان الرسائل بدت للحظة واضحة الي حد الفجاجة باطلاق بانيتا تحذيرا »من أن النزاعات بين الدول الآسيوية قد تؤدي الي حرب«، والعبارة تحمل في طياتها رسالة لبكين مفادها أن واشنطن لن تقف مكتوفة الايدي لتتفرج علي التصعيد الحادث، ليس بين الصين واليابان فقط، وانما في مجمل النزاعات التي تمثل الصين القاسم المشترك فيها جميعا، الأمر الذي يعكس ما هو اكثر من القلق، وصولا الي ترجمة بعض بنود الاستراتيچية الامريكيةالجديدة في تواجد مؤثر علي الأرض في المنطقة التي تعتبرها رهان المستقبل بالنسبة لواشنطن، وكان الاجراء السريع المضاد اعلان اعتزام امريكا واليابان توسيع نظام الدفاع الصاروخي، بينما اتفاقية الامن المشترك تغطي الجزر محل النزع. وإذ كانت الثروات الطبيعية، لاسيما النفط والغاز، في مقدمة عناصر الجذب وتفريخ الصراعات بين القوي الكبري، فإن الجزر المتنازع عليها قد تكون غنية بكليهما: النفط والغاز، فالامر ليس نزاعاً عنوانه الرئيسي الكرامة بقدر ما يمثل صراعاً علي الثروات والموارد، من هنا يمكن تفسير اقتراب 6 سفن صينية من الجزر التي أعلنت اليابان عن صفقة شرائها، وفي ظل تاريخ من ضعف الثقة المتبادلة وجراح دامية يعود بعضها لقرون فإن »الدعوات الطيبة« للتوصل إلي حلول عبر عملية دبلوماسية تعد تبسيطاً لمشاكل ذات اعماق، وتتطلب قدراً هائلاً من الرغبة الحقيقية في تسوية تضع بحسبانها كل الاعتبارات التي تهم جميع الاطراف مما يصعب المهمة، إلا أن ما يجعل المزيد من التصعيد ليس البديل الاقرب. ان التوقيت حرج بالنسبة للصين واليابان، فإلي جانب تباطؤ النمو الاقتصادي هنا وهناك، فأن ثمة تغييرات مرتقبة في القيادة الصينية بينما تستعد اليابان للانتخابات، مما يعني ان غياب القدرة علي ضبط النفس في هذه اللحظات يكون ثمنه باهظاً لصناع القرار علي الجانبين، من ثم لابد أن يكون بحسبانهما وضع الصراع تحت سقف منخفض.. وإلا!